أجهزة المخابرات.. تفاقم عمليات التصفية على المكشوف؟
٢٠ أكتوبر ٢٠١٨القضايا تتراكم الواحدة تلو الأخرى: جمال خاشقجي، سيرغي سكريبال، خطف المخابرات الفيتنامية لرجل أعمال في برلين، وقتل الأخ غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. يبدو أن الدول ووكالات استخباراتها في جميع أنحاء العالم تقوم بعملياتها لتصفية الخصوم بشكل علني أكثر من ذي قبل وأنه لم يعد هناك أي سرية.
وعن هذا يقول خبير الاستخبارات إيريش شميت- إينبون: "الملابس المبللة عادت لتشهد ازدهاراً جديداً"، كما يُصطلح على عمليات تصفية الأشخاص بلغة لجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفييتي سابقاً "كي جي بي". ويشير المصطلح إلى عمليات استخباراتية يمكن أن يسيل من جرائها الدم على ملابس منفذيها.
ويعتبر شميت- إينبون عام 2006 نقطة فاصلة، عندما تم تسميم العميل الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو في لندن بواسطة مادة البولونيوم 210. وعمل الأطباء في مستشفى كلية الجامعة في لندن جاهدين مدة 23 يوماً من أجل إنقاذ حياته. وبدا ليتفينينكو نفسه يشك بأنه قد تعرض للتسميم. وقبل بضع ساعات من موته، قال ليتفينينكو في مقابلة مع صحيفة "التايمز" الأمريكية: "لقد نال مني الأوغاد، لكنهم لن ينالوا من الآخرين جميعهم".
في أواخر التسعينيات، كان ألكسندر ليتفينينكو مسؤولاً عن تحقيق داخلي في قضايا فساد داخل هيئة الأمن الفيدرالي الروسية "أف أس بي"، الجهاز الذي خلف الـ"كي جي بي" والذي كان برئاسة فلاديمير بوتين آنذاك. خرج ليتفينينكو عن الخط الأحمر مع رؤسائه بعد أن انتقد عدم القيام بشيء حيال الفساد المنتشر.
عندما سرب في 1998 تفاصيل مؤامرة قتل الأوليغارشي الروسي بوريس بيريزوفسكي، أُلقي القبض عليه بتهمة إساءة استخدام السلطة. في 2000، هرب إلى المملكة المتحدة عبر تركيا ونجح في طلب اللجوء هناك. بالرغم من أن القضية ظلت غير واضحة حتى يومنا هذا، إلا أنها واضحة لشميت- إينبون، إذ يرى أن هيئة الأمن الفيدرالي هي من يقف وراء تصفية العميل الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو.
هل تعمل أجهزة الاستخبارات بشكل فوضوي؟
بالمثل تصرف الجناة في حادثة سالزبري في المملكة المتحدة في أوائل شهر آذار/ مارس 2018، حيث تم تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته جوليا، لكنهما تمكنا من النجاة. واستخدم الجناة المادة السامة "نوفيتشوك"، وهي عبارة عن غاز اخترع في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته في الاتحاد السوفييتي.
هل تعمل أجهزة الاستخبارات بشكل فوضوي أم أنها تتبع استراتيجية معينة؟ يجيب الخبير في أجهزة الاستخبارات الدولية، البروفيسور فولفغانغ كريغر من جامعة ماربورغ الألمانية: "يمكن ملاحظة أن أجهزة الاستخبارات لم تعمل في الخفاء كما كانت في السابق. على سبيل المثال أصبحت حوادث السيارات المفتعلة بعيدة كل البعد عن موضة اليوم. لم تعد أجهزة الاستخبارات تخجل أو تخشى شيئاً بالمرة".
الروس يلاحقون الخونة بلا رحمة
عمل سكريبال في جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية، لكنه إلى جانب ذلك كان يتجسس لصالح المخابرات البريطانية أم آي 6 منذ 2004. أُلقي القبض عليه في روسيا بتهمة الخيانة وحُكم عليه بالسجن لمدة 13 عاماً. وفي 2010 تم الإفراج عنه قبل إنهاء مدة السجن في إطار عملية تبادل دولية للسجناء، ومن ثم لجأ إلى المملكة المتحدة.
بالنسبة إلى الخبير كريغر تعتبر حالة سكريبال حالة نموذجية عن عمل أجهزة لاستخبارات الروسية والسوفييتية. غالبية المستهدفين يكونون منشقين أي قد عملوا بشكل جزئي داخل أجهزة الاستخبارات الروسية والسوفييتية السابقة، وعملوا بعدها لصالح أجهزة استخبارات أخرى في الخارج. "منذ 1920 يُلاحق هؤلاء المارقون بلا رحمة داخل الاتحاد السوفييتي. لكن هذا كان يحدث تحت ستار من السرية. هناك بعض الحالات من عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته سجلت سقوط أشخاص من النوافذ، ولكن ربما حدث ذلك لهم مع القليل من مساعدة طرف آخر" يقول كريغر.
حتى سكريبال نفسه يمكن وصفه بالمنشق، لأنه على ما يبدو حتى انتقاله إلى سالزبري، لم يكتف فقط بحياة التقاعد والتأمل، كما كان يشتبه في البداية. ويقول الخبير شميت- إينبون: "لقد دعم سكريبال بنشاط الاستخبارات البريطانية".
في براغ، على سبيل المثال، فضح سكريبال إلى جانب مسؤولي أم آي 6، أمر عملاء روس نشطين عرفهم من وقت خدمته في الاستخبارات الروسية. "في صيف 2016، كان سكريبال في تالين بإستونيا ، وأعطى مؤشرات دقيقة تمكن من الكشف عن ثلاثة جواسيس من موسكو".
كما زود أجهزة الاستخبارات الإسبانية بمعلومات عن علاقات المافيا الروسية في إسبانيا بالسياسيين البارزين في موسكو. ويقول شميت- إينبون: "لقد استمر في العمل مع أجهزة الاستخبارات الغربية، الأمر الذي لم يعجب زملائه السابقين في روسيا".
العلاقة البريطانية-الروسية سيئة تاريخياً
الكسندر غوزاك، قائد ليتفينينكو السابق، يلخص باختصار وبشكل جذري طريقة التعامل الروسية مع المرتدين، وذلك في تصريحه لصحيفة "نيويورك تايمز" بالقول: "نشأتُ معتنقاً المُثل السوفييتية. ابصق على الخائن، ألقِ القبض عليه، أطلق عليه النار أو اشنقه، وتبول على قبره".
ويُضاف إلى ذلك العلاقة المتوترة تاريخياً بين كل من روسيا والمملكة المتحدة. وبحسب خبير الاستخبارات شميدت – إينبون بعد انتهاء الحرب الباردة، علقت معظم أجهزة الاستخبارات الغربية عملها الاستخباراتي مع الاتحاد السوفييتي، ثم مع رابطة الدول المستقلة، ولكن ليس مع البريطانيين.
ويضيف الخبير: "لقد شوهدت النتيجة في الحرب الشيشانية التي أظهرت الاستخبارات البريطانية حضوراً مستداماً. وكانت الشيشان أيضاً، المكان الذي قامت فيه المخابرات البريطانية أم آي 6 بتجنيد العديد من المنشقين عن روسيا".
من جهته يرى كريغر أن الأوليغارشية الروسية، وهي لا تُعد ولا تُحصى وتحب الاستقرار في لندن، لا تفضي إلى علاقات بريطانية روسية جيدة. العديد من الأوليغارشيين اكتسبوا ثروة هائلة في روسيا بمساعدة النظام الروسي، ومن لندن الآمنة يستهزؤون بالرئيس الروسي.
"التكذيب من الرياض أمر لا يمكن تصديقه"
بالنسبة للخبير كريغر فإن قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي مشابهة لما يحدث مع الروس. "خاشقجي يأتي من جهاز السلطة السعودي الداخلي، ومن هذا المنطلق يُعد من المنشقين هو الآخر". اختفى أثر الصحفي منذ دخوله قنصلية المملكة السعودية في إسطنبول منذ حوالي أسبوعين.
ويشتبه المحققون الأتراك في أنه قُتل هناك. ويسلطون تركيزهم على فرقة خاصة مشبوهة كانت قد سافرت إلى إسطنبول في اليوم الذي زار فيه خاشقجي قنصلية بلاده هناك. ويقول شميت- إينبون: "المثير في الأمر هو أن طبيباً كان جزءا من الفريق المؤلف من 15 شخصاً".
ويضيف بالقول: "نحن نعلم أن أساليب التعذيب الحديثة يتم تنفيذها دائماً تحت إشراف طبي، كما نعرف ذلك من معتقل غوانتانامو وأبو غريب في بغداد". ولهذا السبب، فإن التكذيب الصادر من الرياض لا يمكن تصديقه.
عند استخدام سموم خاصة أو القيام بذلك تحت أعين كاميرات أجهزة الأمن التركية، فإن الأمر يدعو أجهزة المخابرات الدولية للتدخل. السؤال المطروح هنا: هل هذا استهتار؟
ميشائيل مولير، خبير في جهاز المخابرات الألمانية الاتحادية ومؤلف العديد من الكتب حول أجهزة المخابرات يقلل من ذلك قائلاً: "الاستخبارات لا تعمل بشكل مستهتر، بل ترسل رسالة إلى المقلدين المحتملين: باستطاعتنا تنفيذ ذلك وسنقوم به، ونجرؤ على ذلك، وفي حالة الشك، لا نسمح لأي أحد أن يوقفنا".
نوتكر أوباهاوزر/ إ.م