أرمن كاراباخ ـ مصير مجهول وحلفاء غائبون!
٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣بعد هجوم جيش أذربيجان على إقليم ناغورني كاراباخ، فر آلاف الأرمن من مدنهم إلى أرمينيا في موكب مركبات بلغ طوله مائة كيلومتر عبر ممر لاتشين. لاجئون كانوا مزارعين، أو خبازين، أو حرفيين، أو سياسيين، وسط ذهول العالم الذي وقف يتفرج، باستثناء تصريحات كلامية، فلم تتدخل أي دولة في المنطقة لمساعدة الأرمن. فقد أدارت لهم روسيا (الحليف التاريخي) ظهرها وهي الغارقة في حربها ضد أوكرانيا. أما واشنطن فمشغولة بقضايا تعتبرها أهم، فيما تقاطرت رسائل المواساة والاستعداد لتقديم المساعدات الإنسانية من قبل الاتحاد الأوروبي.
جمهورية أرتساخ (نارغوني كاراباخ) المعلنة من جانب واحد نفسها، دقت المسمار الأخير في نعشها معلنة نهاية وجودها رسميا بحلول الأول من يناير/ كانون الثاني المقبل، وهو ما يعني استسلاما مكتمل الأركان لأذربيجان. يذكر أنه في عام 1991، قامت ميليشيات أرمينية بإعلان انفصال الإقليم عن أذربيجان في خرق للقانون الدولي. صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية (20 سبتمبر) كتبت "إن الأرمن يقفون اليوم بمفردهم. إن الغزو (الروسي) لأوكرانيا جعل العلاقة بين الحاجة إلى إمدادات الطاقة، والدفاع عن الشعوب وحقوق الإنسان أمران لا ينفصلان. (..) على الرغم من أن (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يصف نفسه بأنه مدافع عن الحضارة المسيحية الأرثوذكسية".
وذهبت صحيفة "الغارديان" البريطانية (21 سبتمبر) في نفس الاتجاه وكتبت معلقة "في عام 2020، توسطت روسيا في اتفاق لإنهاء القتال ولعبت منذ التسعينيات دورًا رئيسيًا، من خلال رئاستها المشتركة مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لمجموعة مينسك. غير أن هذا التعاون انتهى وهذه المرة كانت موسكو غائبة بشكل واضح عن الأزمة، على الرغم من طلب أرمينيا، الحليف القديم، المساعدة. (...) تمثل الحرب في أوكرانيا أولوية بالنسبة لموسكو، مما يحد من قدرتها واهتمامها بأمور أخرى. ومع ذلك، يشتبه الكثيرون في أن تقاعس موسكو هو أيضًا انتقام من "مغازلة" أرمينيا لحلف شمال الأطلسي، على سبيل المثال من خلال التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة. (...). يجب حماية الأرمن في ناغورني كاراباخ الآن" تقول الصحيفة.
دعوات برلين ـ هل تجد آذانا صاغية؟
من المتوقع أن يشارك المستشار الألماني أولاف شولتس إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في لقاء سيجمع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول في غرناطة الإسبانية، وفق ما أعلنه مجلس الأمن الأرميني. وسبق لشولتس أن قال في نيويورك إن "أذربيجان وأرمينيا الآن في وضع حرج للغاية (..). إن المهم هو العودة مرة أخرى إلى المسار الدبلوماسي ومحاولة التوصل إلى حل سلمي يتم الاتفاق عليه بين الجانبين". من جهتها طالبت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك أذربيجان بالسماح لمراقبين دوليين بدخول إقليم ناغورني كاراباخ، وقالت "هناك حاجة الآن إلى وجود الشفافية وعيون وآذان المجتمع الدولي ميدانيا". وأعلنت الوزيرة عن زيادة الأموال المخصصة للجنة الدولية للصليب الأحمر من مليوني إلى خمسة ملايين يورو. ودعت لإرسال مراقبين إلى الإقليم بأسرع وقت، معتبرة أن ذلك سيكون دليلا على الثقة في أن تأخذ أذربيجان تعهداتها بالحفاظ على أمن ورفاهية السكان في ناغورني كاراباخ مأخذ الجد وذلك عندما تسمح بدخول مراقبين دوليين.
غير أن صحيفة "تاتس" الألمانية اليسارية (28 سبتمبر) حملت أيضا المسؤولية فيما يحدث لسياسة برلين والاتحاد الأوروبي تجاه أذربيجان. وكتبت بهذا الصدد معلقة "رغم أن هذه الكارثة كانت تلوح في الأفق، استقبل أولاف شولتز الرئيس الأذربيجاني المستبد إلهام علييف في برلين في مارس/ آذار 2023. وكان استنتاجه كالتالي: أذربيجان شريك ذو أهمية متزايدة لألمانيا والاتحاد الأوروبي. بلد يملك القدرة على تقديم مساهمة مهمة في تنويع إمدادات الطاقة الألمانية والأوروبية. هذا بيت القصيد: فهل وزن المصالح الاقتصادية بالنسبة لبرلين أكثر أهمية من الإبادة الجماعية الثانية للأرمن؟".
الاتحاد الأوروبي بين القيم والمصالح
لعل الكل يتذكر صور أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وهي تبتسم وتصافح رئيس أذربيجان إلها م علييف، مباشرة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فمنذ ذلك الحين زاد تدفق غاز أذربيجان إلى أوروبا لتعويض الغاز الروسي. حرب أوكرانيا ساهمت في تأسيس شراكة جديدة بين بروكسيل وباكو بإعلان نوايا مشترك بينهما في صيف عام 2022. وتعتزم أذربيجان مضاعفة صادراتها تدريجيا إلى الاتحاد الأوروبي بحجم يصل إلى 20 مليار متر مكعب بحلول عام 2027 عبر ممر الغاز الجنوبي. وقالت فون دير لاين في ذلك الوقت إن الاتحاد الأوروبي يسعى ليصبح أكثر استقلالية من حيث مصادر الطاقة عن روسيا بالتوجه إلى "شركاء أكثر موثوقية وجديرين بالثقة".
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "دي فولكس كرانت" الهولندية (26 سبتمبر) معلقة: "يسعى الاتحاد الأوروبي للتوسط بين أذربيجان وأرمينيا بدعم دبلوماسي من واشنطن. والهدف هو التوصل إلى تسوية سلمية نهائية يتم فيها توضيح كافة القضايا العالقة. ومن المفارقات أن الاتحاد الأوروبي بدأ مؤخرًا في الحصول على الغاز الأذري الذي لم يعد التكتل يرغب في شرائه من موسكو. وبغض النظر عن هذه المفاوضات بين الجانبين المتصارعين (..)، فقد كان من الواضح منذ أكثر من عام أن أذربيجان كانت تجري المحادثات والسكين في يدها. إن الانتهاكات لحقوق الإنسان يمكن أن تكون نذيراً لأعمال عنف أسوأ، إذا لم يتم كبح طموحات أذربيجان. ويتعين على الاتحاد الأوروبي الآن أن يثبت أن سياسته الخارجية هي أبعد من مجرد البحث عن إمدادات الغاز".
"الكراهية بين الجانبين لا يمكن القضاء عليها"
قبل أكثر من ثلاثين عاما أعلنت أرمينيا استقلالها، بعدما كانت جمهورية تابعة للاتحاد السوفييتي، غير أن ذلك لم يمكنها فعلا من الاستفادة من نعيم الاستقلال، إذ دخلت منذ ذلك الحين في دوامة من الحروب ضد جارتها أذربيجان بشأن السيادة على إقليم ناغورني كاراباخ، الذي يقع جغرافيا ضمن أراضي أذربيجان المعترف بها دوليا، ولكن تقطنه أغلبية من الأرمن. غير أن العملية العسكرية الأخيرة التي نفذتها أذربيجان للسيطرة على الإقليم وقعت عمليا عقد وفاة هذه "الجمهورية" / الجيب. وهذا ما فتح بدوره باب المجهول أمام السكان الأرمن الذين بدأ الآلاف منهم بالنزوح إلى أرمينيا المجاورة حيث فر منهم حوالي 70 ألف شخص في حصيلة مؤقتة (الخميس 28 سبتمبر). ولم يبق أمام المقاتلين الأرمن في الإقليم سوى القليل من الخيارات، ضمنها تسليم أسلحتهم بعد هزيمتهم السريعة على أيدى القوات الأذربيجانية، وهو ما بدأوا به فعلا الجمعة الماضي (15 سبتمبر). أما المدنيين الأرمن فأمامهم خيار الاندماج في أذربيجان أو المغادرة إلى أرمينيا.
رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان قال بهذا الصدد "تحليل الوضع يظهر أنه لن يتبقى أرمن في ناغورني كاراباخ في الأيام المقبلة. هذا تطهير عرقي". وتنفي أذربيجان هذا الاتهام قائلة إنها لا تجبر الناس على المغادرة وإنها تضمن الحقوق المدنية للأرمن، غير أن هؤلاء لا يثقون في هذا الوعد، بسبب تاريخ طويل من إراقة الدماء بين الطرفين. صحيفة "أوغسبورغه ألغماينه تسايتونغ" الألمانية (21 سبتمبر) استأنست برأي شتيفان ماليريوس، مدير البرنامج الإقليمي لجنوب القوقاز في مؤسسة "كونراد أديناور" الألمانية، الذي قال "المفاوضات مستمرة بوساطة روسية، لكن من غير المتوقع تقديم أي تنازلات من الحكومة الأذربيجانية (..). من المحتمل أن يضطر أكثر من مائة ألف أرمني إلى مغادرة ناغورني كاراباخ والبحث عن ملجأ في أرمينيا". وأضافت الصحيفة أن انعدام الثقة و"الكراهية الصريحة" بين الجانبين أمر لا يمكن التغلب عليه. وأشارت الصحيفة إلى أن "ممثلي الأرمن في ناغورني كاراباخ أنفسهم لا يؤمنون بأي مستقبل لهم في المنطقة. الخبير ماليريوس واثق من إمكانية منع الفظائع المخيفة ضد الأرمن، خصوصا بعد لتحذيرات والمخاوف من احتمال حدوث إبادة جماعية ضد الأرمن في الإقليم".
لماذا تخلت موسكو عن حلفائها الأرمن؟
لعبت روسيادورا تاريخيا في النزاع حول إقليم ناغورني كاراباخ، بحكم تاريخها السوفييتي، ولكن أيضا لأنها عضو في ما كان يسمى بمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهي آلية تشارك في رئاستها كل من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا، بهدف حل النزاع بطرق سلمية. وكانت روسيا قد نشرت أيضا في العام 2020 قوة لحفظ السلام قوامها 2000 جندي في الإقليم الانفصالي. وواجهت موسكو التي تملك نفوذا تاريخيا في القوقاز، انتقادات حادة من الغرب والأرمن. وبهذا الشأن، اعتبر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أن أرمينيا لم تعد محمية من قبل حلفائها الإقليميين والتكتلات الأمنية الإقليمية (في إشارة إلى روسيا). يذكر أن أرمينيا تربطها اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا، على الرغم من أنها لا تشمل ناغورني كاراباخ. كما أن البلدان عضوان في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تهيمن عليها روسيا. ويعتقد أيضا أن انشغال الرئيس فلاديمير بوتين بالحرب في أوكرانيا، إضافة إلى التقارب الأرميني الأمريكي جعل موسكو تتخلى عن الأرمن.
من جهتها، كتبت صحيفة "نويه تسوريخه تسايتونغ" السويسرية الناطقة بألمانية (24 سبتمبر) معلقة "إن الإمبراطورية الروسية تنهار تدريجيا، والكل بإمكانه ملاحظة هذا الاضمحلال. إن استسلام الأرمن في ناغورني كاراباخ بعد 24 ساعة من الحرب ضد أذربيجان هو أيضًا استسلام من جانب روسيا. لقد سمحت قوة حفظ السلام الروسية المزعومة للمهاجمين بشق طريقهم. وهكذا اختفى الأرمن بالكامل في كاراباخ من الخريطة، لأن موسكو تفتقر إلى الإرادة السياسية والوسائل العسكرية للحفاظ على الوضع الراهن في القوقاز. وربما لا يزال الرئيس الروسي يحاول التخطيط لإسقاط الحكومة الأرمنية في يريفان، التي تنتقده علانية. لكن الأرمن يشعرون بخيبة أمل. لقد أدركوا أن القاعدة العسكرية الروسية الكبيرة في البلاد والعضوية في تحالف عسكري بقيادة موسكو لم تعد ذات قيمة. لقد فشلت روسيا ولم يعد لديها ما يمكنها تنظيمه في هذا الجزء من "ساحتها الخلفية".
حسن زنيند