إرث ترامب.. مجتمع منقسم واقتصاد مأزوم وضحايا كورونا بالآلاف!
٢٠ يناير ٢٠٢١عندما ألقى الرئيس دونالد ترامب خطاب التنصيب في 20 يناير/ كانون الثاني عام 2017 أكد أنه الوحيد القادر على إصلاح أمة معطلة تواجه واقعا كئيبا. ومع اختتام رئاسته بعد أربع سنوات، يخلف ترامب وراءه بلدا أكثر انقساما يموت فيه الآلاف يوميا بوباء كوفيد-19 فضلا عن اقتصاد تضرر بشدة وعنف سياسي متصاعد. ومع مغادرة ترامب البيت الأبيض، فإن جزءا رئيسيا من إرثه سيكون على الأرجح شعبا أكثر تباعدا عن بعضه البعض سياسيا وثقافيا، عما كان عليه الأمر عندما تولى السلطة.
ورغم أنه تمنى أخيرا حظا موفقا لإدارة بايدن في رسالة فيديو، فان الملياردير المتقلب لم يهنىء أبدا الرئيس المنتخب وهو أمر غير مسبوق منذ 150 عاما وقرر عدم حضور حفل تنصيبه في واشنطن. وسيدخل هذا اليوم كتب التاريخ في الولايات المتحدة خصوصا بسبب وصول امرأة إلى منصب نائب الرئيس للمرة الأولى في تاريخ أكبر قوة في العالم. وستصبح كامالا هاريس (56 عاما) أول امرأة من أصول هندية تتولى هذا المنصب.
في ختام ولاية شهدت سيلا من الفضائح ومرتين من إجراءات "العزل"، يغادر ترامب السلطة ولتأييد الشعبي له في أدنى مستوياته، ومقطوعا عن قسم من معسكره الذي روعه مشهد اقتحام الكونغرس من قبل أنصاره.
مجتمع منقسم
وعندما سار آلاف من أنصار ترامب الغاضبين، وهم في غالبيتهم العظمى من البيض، صوب مبنى الكونغرس (الكابيتول) في السادس من يناير/كانون الثاني كانوا مدفوعين بمزاعم كاذبة رددها ترامب عن سرقة الانتخابات، ما نتج عنه أحداث شغب تسسبت في مقتل ضابط شرطة وأربعة أشخاص آخرين وإصابة العشرات، وأحدثت هزة عنيفة في وجدان الشعب الأمريكي.
ويقول خصوم ترامب إن العرق يمثل المحور الرئيسي لهذا الانقسام. ففي أوائل فترته الرئاسية قاوم في بادئ الأمر التنديد بالقوميين البيض بعد تجمع للبيض أعقبته اشتباكات دامية في تشارلوتسفيل بولاية فرجينيا عام 2017، مما أذكى تكهنات بأنه يتعاطف مع قضيتهم.
وغالبا ما كان خطابه الشعبوي المفعم بالعبارات الرنانة يؤدي إلى تفاقم الأزمات العرقية التي نجمت عن مقتل مواطنين سود على أيدي الشرطة. ونفى ترامب مرارا أي نوازع عنصرية. ويجادل أنصاره بأنه جاء ليصحح ما فعلته الإدارات السابقة من الحزبين والتي أهملت الفقراء والطبقة العاملة والمناطق الريفية التي عانت كثيرا طوال العقود الماضية. وقاعدة التأييد هذه ما زالت واسعة، وهو إرث آخر على الأرجح من حقبة ترامب.
ولا شك أن إبقاء البلاد في حالة تأهب، وما يستتبعه ذلك من عمليات إغلاق أمنية في واشنطن وعواصم الولايات الأمريكية، يثير القلق من أن يشجع حصار الغوغاء من أنصار ترامب للكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني المتطرفين اليمينيين على ارتكاب المزيد من أعمال العنف. ويقول آرون ديفيد ميلر وهو مستشار سابق بوزارة الخارجية خدم مع إدارات ديمقراطية وجمهورية ويعمل الآن مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن "لم يشهد التاريخ الحديث رئاسة (كهذه) تجلى فيها اختلال أمريكا بهذا الشكل".
ورفض المتحدث باسم البيت الأبيض جود دير فكرة أن إرث ترامب إرث مهترئ. وفي بيان مكتوب إلى رويترز، قدم دير قائمة لما وصفه بإنجازات ترامب الاقتصادية مثل وضع البلاد على طريق الانتعاش إضافة إلى إجراءات مثل تخفيف القيود على انبعاثات السيارات والتنقيب عن النفط. لكنه أحجم في البيان عن الرد على الاتهامات بالعنصرية الموجهة لترامب.
تغييرات داخلية عميقة
لقد أعطى ترامب في الواقع عددا من الأولويات لحزبه الجمهوري. وبالتعاون مع زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل أجرى ترامب تغييرات على القضاء الأمريكي ليضفي عليه صبغة محافظة أكثر بتعيين ثلاثة من قضاة المحكمة العليا والتعجيل بتعيين أكثر من 200 من القضاة الاتحاديين.
كما اتخذ قرارات بإعفاءات ضريبة واسعة للشركات. وتوسع الاقتصاد بوتيرة أسرع مما حدث في عهد سلفه باراك أوباما وهبطت معدلات البطالة لنسب قياسية. لكن الاقتصاد الذي كان ترامب يأمل بأن يصبح أقوى بوق دعاية له في حملة إعادة انتخابه تهاوى تحت وطأة سلسلة من إجراءات العزل العام وعمليات الإغلاق لكبح جائحة كورونا التي ألقت بالبلاد في أتون أسوأ انكماش منذ نحو مائة عام، مع ارتفاع قياسي في معدلات البطالة. كما أن الدين العام الذي تضخم في عهده زاد أكثر في عامه الأخير في الرئاسة.
أمريكا أولاً!
وفي الخارج قام ترامب بتفعيل أجندته التي تحمل شعار (أمريكا أولا). وقام بإلغاء أو تعطيل اتفاقات متعددة الأطراف، فانسحب من اتفاقية باريس للمناخ التي تلزم كل دولة تقريبا بخفض انبعاثات الغازات المسببة لارتفاع حرارة الأرض، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران الذي خفف العقوبات المفروضة عليها مقابل فرض قيود على برنامجها النووي. كما قوضت إدارته تحالفات راسخة مثل منظمة حلف شمال الأطلسي واستعدَت شركاء تقليديين واسترضت حكاما شموليين.
لكن ترامب حظي بإشادة الجمهوريين وكثير من الديمقراطيين لاتخاذه موقفا أشد صرامة إزاء الصين، لكن إدارته واجهت انتقادات بسبب إشعال فتيل حرب تجارية مع بكين وانتهاج خطاب حماسي يعج بلغة طنانة تعود لزمن الحرب الباردة.
كما لقي ترامب إشادة لتوسطه في اتفاقات تاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربيةكانت يوما من أعدائها. وخفض القوات الأمريكية في مناطق الصراع مثل أفغانستان والعراق وسوريا على الرغم من أنه أخفق في الانسحاب تماما من "حروب بلا نهاية" مثلما وعد في حملته الانتخابية عام 2016.
بطل شعبي
يقول محللون إن قوة ترامب السياسية تنبع في جانب منها من قدرته على تصوير نفسه على أنه بطل شعبي، مستغلا سخطا يعتمل على مدى سنوات في نفوس الريفيين البيض وأبناء الطبقة العاملة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة مجتمعا أكثر تعددية عرقيا واستشعرت مناطقهم ألم العولمة.
كما انضوى تحت راية ترامب بعض جماعات اليمين المتطرف. وكان من بين مثيري الشغب الذين تجمعوا عند مبنى الكابيتول عناصر أكثر تطرفا في قاعدته الشعبية مثل أعضاء حركة (كيو آنون) التي تعتنق نظرية مؤامرة تزعم أن ترامب يحارب زمرة من الديمقراطيين من عبدة الشيطان المتحرشين بالأطفال وآكلي لحوم البشر.
ونفى ترامب أي تآلف مع مثل هذه الجماعات أو الترحيب بأعضائها بين أنصاره. وفي عام 2019 قال "أنا أقل شخص عنصري يمكن أن تجده في أي مكان في العالم".وامتدت الاتهامات الموجهة لترامب بكراهية الأجانب إلى سياساته الخاصة بالهجرة. وقال مسؤول بالبيت الأبيض لرويترز طالبا عدم نشر اسمه لقد كان "فشلا ذريعا" عندما قامت الإدارة عام 2018 بفصل آلاف الأطفال، وبينهم رضع، عن آبائهم غير المسجلين عند الحدود مع المكسيك. وانتشرت صور الصغار المكدسين الباكين في أنحاء العالم.
ويأتي الانتقال غير المنظم للسلطة الرئاسية على خلفية انتشار متزايد لجائحة كورونا التي هوّن ترامب من شأنها فضلا عن مصاعب مالية متزايدة أدت إلى كساد عنيف.
أنصار مهمشون
وعلى الرغم من ابتعاد بعض أنصار ترامب عنه منذ الهجوم على الكونغرس، ظل معظمهم متشبثا به على ما يبدو. وأظهر استطلاع أجرته رويترز/إبسوس بعد حصار مبنى الكابيتول مباشرة أن 70 في المئة من الجمهوريين ما زالوا موالين لترامب. ويقول نشطاء كثيرون إنهم مستعدون لترك الحزب في حالة أي استهانة بزعيمهم.
قال أحد مؤيدي ترامب من أوكلاهوما ويدعى ويل وليامز "أرى ترامب محاربا من أجل الشعب يعمل بحق من أجل تعزيز مكانة بلاده... سأظل أذكره كرجل عظيم أجهز على الفساد في هذا البلد".
وخلال خطاب تنصيبه، استخدم ترامب تعبير "المذبحة الأمريكية" في إشارة إلى طبقات مهمشة من الأمريكيين في صورة بائسة اعتبرها كثير من الديمقراطيين تضخيما لكنها لقيت صدى واسعا لدى هذه القاعدة وأيضا لدى فقراء الريف الأمريكي.
وقال ترامب إن أحلام هؤلاء أجهضتها المحنة الاقتصادية والجريمة والمخدرات وفقدان الوظائف لحساب دول أخرى. وقال ترامب آنذاك "فلتتوقف هذه المذبحة الأمريكية هنا والآن".
ويقول معارضو ترامب، الثري والمطور العقاري السابق، إنه لم يفعل شيئا يذكر من أجلهم. وقد سعى ترامب مرارا للقضاء على مشروع الرعاية الصحية الشاملة المعروف باسم (أوباما كير) الذي ساعد ملايين الأمريكيين على الحصول على تأمين صحي.
الجمهوريون والبحث عن الذات
بعدما أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يواجه المساءلة مرتين، أحدثهما بتهمة التحريض على أعمال الشغب التي شهدها الكونغرس، يشوب الغموض الشديد مستقبل الحزب الجمهوري. والآن وبعد أن وجد الجمهوريون أنفسهم في مقاعد المعارضة بمجلس الشيوخ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت سيطرة ترامب على الحزب ستستمر في وقت لم تعد لديه مقاليد السلطة الحكومية.
وما زالت قاعدة ترامب قوة انتخابية ذات ثقل، فقد منحته أصوات نحو 74 مليون ناخب، أي أكثر من أي جمهوري آخر في التاريخ. وتجلى الخوف من استعداء هؤلاء عندما أيد نحو نصف الجمهوريين بمجلس النواب محاولة فاشلة لمنع التصديق على فوز بايدن بالرئاسة.
لكن ظهرت بعض التصدعات في صفوف الجمهوريين ردا على الفوضى التي حدثت داخل مبنى الكابيتول وربما يمر الحزب بفترة بحث عن الذات. كما أن مستقبل ترامب نفسه في خطر. فإذا أدانه مجلس الشيوخ في مساءلة ستجرى بعد رحيله عن البيت الأبيض، فقد يتم منعه من تولي المنصب مرة أخرى.
ع.ح./ع.ج (رويترز، ا ف ب)