الانتخابات المبكرة في فرنسا ـ رهان ماكرون المحفوف بالمخاطر!
٢٢ يونيو ٢٠٢٤بترقب كبير تنتظر فرنسا ومعها أوروبا نتائج انتخابات مبكرة في دورتين من المقرر أن تجرى يومي 30 يونيو/ حزيران و7 يوليو/ تموز 2024، وذلك إثر قرار اتخذه الرئيس إيمانويل ماكرون، وفق صلاحياته الدستورية، بعد فوز حزب "التجمع الوطني" الشعبوي اليميني بأغلبية ساحقة في الانتخابات الأوروبية. وسيختار الناخبون الفرنسيون (نحو 50 مليون ناخب) أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) البالغ عددهم 577 عضوا. وقد بدأت الحملة الانتخابية رسميا يوم الاثنين (17 يونيو) لتستمر أقل من أسبوعين.
إن التحديات السياسية والاقتصادية التي تنتظر الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته كبيرة. وقد تكون هذه الانتخابات الجديدة رهاناً محفوفاً بالمخاطر، ليس فقط بالنسبة لفرنسا، بل وأيضاً بالنسبة للاتحاد الأوروبي بالكامل.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "الباييس" الإسبانية (12 يونيو/ تموز 2024) معلقة "الدعوة إلى انتخابات مبكرة في وقت تتسع فيه شعبية حزب "التجمع الوطني" هو رهان محفوف بالمخاطر. ويبدو أنه من غير المرجح أن تنعكس موازين القوى في غضون عشرين يوما فقط بعد الانتخابات الأوروبية (...). وباستثناء باريس وثلاث مقاطعات قريبة من العاصمة، أصبح "التجمع الوطني" أقوى حزب في البلاد. (..) سبق لماكرون أن وعد الفرنسيين بأنه سيقضي على اليمين المتطرف (..)، ولكن بعد الانتخابات الأوروبية حدث العكس تماما في بلد يعتبر إلى جانب ألمانيا، محركا للاتحاد الأوروبي. ويتعين الآن الانتظار ما إذا كانت الانتخابات البرلمانية المبكرة ستكون بمثابة حاجز وقائي أو طريق سريع لليمين المتطرف".
ماكرون ـ استراتيجية محفوفة بالمخاطر
قرار ماكرون، وقبله فوز حزب لوبن، كان بمثابة القنبلة التي أعادت خلط الأوراق في المشهد السياسي الفرنسي، فقد تسارعت عملية إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد تحولت أحيانا إلى مظاهر خوف وفوضى بظهور انقسامات واسعة داخل المعارضة اليمينية. فقد أُطيح بإريك سيوتي رئيس الحزب المحافظ الرئيسي في فرنسا (الحزب الجمهوري) الذي عزله، بسبب اقتراحه تحالفا غير مسبوق مع التجمع الوطني، لكن سيوتي يرفض ترك منصبه. الأزمة وصلت أيضا لـ "حزب الاسترداد" (روكونكيت) اليميني المتطرف الصغير والذي تمكن رغم ذلك من إرسال أول أعضاء إلى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ الأحد. فقد استبعد مؤسسه إريك زمور المدان مرات عدة بتهم التحريض على الكراهية العرقية، رئيسة القائمة الأوروبية ماريون ماريشال، ابنة شقيقة مارين لوبن، بعدما دعت إلى التصويت لصالح "التجمع الوطني" المنافس.
أما معسكر اليسار، فقد حقق إنجازا تاريخيا بتشكيل تحالف مشترك (الجبهة الشعبية) للانتخابات التشريعية بعد أيام قليلة من انقسامه خلال الانتخابات الأوروبية. غير أن الاتفاق على شخصية توافقية لقيادته يبقى مفتوحا. واتّفقت أحزاب اليسار الرئيسية الأربعة، فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي وحزب الخضر والحزب الشيوعي، على تقاسم الدوائر الانتخابية البالغ عددها 577 والاجتماع تحت راية "الجبهة الشعبية"، وهو الاسم الذي يشير إلى التحالف الذي شُكِّل في فرنسا عام 1936 والذي اشتهر خصوصا بإدخاله أول إجازة مدفوعة الأجر في البلاد.
صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية (16 يونيو) كتبت معلقة "قد يحقق اليمينيون المتطرفون في الانتخابات التشريعية المقبلة انتصارا واضحا، ما قد يجعل من ماكرون "بطة عرجاء" وقد يتعين عليه بالتالي التعايش مع حكومة معادية للأجانب بشكل صارخ، ومعادية للإسلام، واستبدادية وغير ليبرالية، ومن المرجح أن يقودها جوردان بارديلا - تلميذ لوبن الشاب (...). يبدو أن حسابات ماكرون في هذه الحالة هي أن القرارات الصعبة التي ينطوي عليها تولي مسؤولية الحكومة ستكشف النقاب عن حزب التجمع الوطني على حقيقته - حزب احتجاج وإقصاء (..) سيناريو فوز مارين لوبن في الانتخابات الرئاسية في غضون ثلاث سنوات، قد يكون قفزة خطيرة إلى المجهول".
تداعيات اقتصادية غير محسوبة العواقب
قد يحدث فوز "التجمع الوطني" آثارا اقتصادية عميقة، فعلى المدى القصير، يمكن أن تؤدي التدابير الحمائية وزيادة الدعم للاقتصاد المحلي إلى استقرار بعض القطاعات. ولكن على المدى الطويل، قد يكون للصراعات التجارية، وانخفاض القدرة التنافسية الدولية، وعدم الاستقرار المالي داخل الاتحاد الأوروبي، آثار سلبية كبيرة. كذلك بحث حزب "التجمع لوطني" في الماضي في إمكانية مغادرة الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وإعادة استخدام الفرنك الفرنسي. وعلى الرغم من ضعف هذا الموقف وتراجعه بهذا الشأن في السنوات الأخيرة، إلا أن فوزه المحتمل قد يؤدي إلى توترات داخل التكتل القاري ويهدد استقرار اليورو.
كذلك، تعد فرنسا واحدة من أكبر المساهمين الصافيين في ميزانية الاتحاد الأوروبي. ومن الممكن أن يؤدي سحب المساهمات أو تخفيضها إلى اختناقات مالية ويزيد من صعوبة تنفيذ المشاريع الأوروبية المشتركة. كذلك دعا "التجمع الوطني" مراراً وتكراراً إلى فرض تعريفات جمركية على الواردات لحماية الصناعات المحلية. ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التدابير إلى تعزيز بعض قطاعات الاقتصاد الفرنسي على المدى القصير، ولكنها تؤدي إلى صراعات تجارية وانتقام من دول أخرى على المدى الطويل.
من كيان متطرف منبوذ إلى حزب "مقبول"
لقد تغير المشهد السياسي في فرنسا بشكل كبير خلال السنوات الماضية. فقد قاد الرئيس ماكرون، الذي خاض الانتخابات كمرشح وسطي عام 2017، إصلاحات واسعة النطاق في ولايته الأولى. وتضمنت أجندته التحرير الاقتصادي والإصلاحات الضريبية ومبادرات لتعزيز الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لم تحظ هذه التدابير بالدعم الشعبي، بل أثارت مقاومة كبيرة ظهرت في الاحتجاجات المستمرة التي تنظمها حركة "السترات الصفراء" بشكل مثير ملفت وجديد. ويمثل صعود حزب "التجمع الوطني" تحت قيادة مارين لوبن تحديا كبيرا لماكرون. فقد تمكنت مارين من تحويل حزب "الجبهة الوطنية" من حزب يميني متطرف إلى قوة "مقبولة" سياسيا قادرة على جذب قطاعات واسعة من الناخبين. ويعكس نجاحها في الانتخابات الأخيرة استياء العديد من الفرنسيين من سياسات الأحزاب التقليدية من حيث تدهور القدرة الشرائية ولكن أيضا المشاكل المرتبطة بالهجرة والتطرف الإسلاموي.
صحيفة "لا ريبوبليكا” الإيطالية (12 يونيو) كتبت بهذا الشأن "الواقع أن صعود اليمين الشعبوي المناهض لأوروبا في فرنسا لن يمر دون عواقب بالنسبة لبقية التكتل القاري. إن أجراس الإنذار في بروكسل تدق بالفعل، ذلك أن الحكومة التي سيقودها جوردان بارديلا، تلميذ لوبن، ستكون بمثابة رياح موسمية قد تطلق العنان لعاصفة من عدم اليقين بشأن المستقبل القريب للاتحاد الأوروبي. (..). إن قاطرة الاتحاد الأوروبي المتجسدة في التحالف الألماني الفرنسي (..) سوف يوضع في ثلاجة التاريخ المشترك. كما أن الأحزاب التي تواجه حزب "التجمع الوطني" منقسمة ومتصارعة".
"أوروبا في حاجة لفرنسا ملتزمة"
تلعب فرنسا دورًا مركزيًا في الاتحاد الأوروبي، وقد تكون لمرحلة عدم اليقين السياسية الحالية تأثير على الاتحاد الأوروبي بأكمله. ويتناقض موقف ماكرون المؤيد لأوروبا بشكل صارخ مع مواقف حزب التجمع الوطني المشكك في أوروبا. فصعود هذا الحزب كأول قوة سياسية في البلاد واحتمال قيادة البلاد، يمكن أن يعرض استقرار وتماسك الاتحاد الأوروبي برمته للخطر. كما أن إضعاف ماكرون قد يعني توقف المفاوضات والمبادرات الرامية إلى تعزيز التكامل والإصلاح داخل التكتل القاري. وقد يواجه الاتحاد الأوروبي أيضاً توترات داخلية بسبب صعود الحركات القومية المتشدد في الدول الأعضاء الأخرى.
وبهذا الشأن كتبت صحيفة "فايننشال تايمز" اللندنية (11 يونيو) "إن الانتخابات السابقة لأوانها في فرنسا مهمة محفوفة بالمخاطر للغاية. ويبدو أن نية ماكرون هي إخراج الناخبين الفرنسيين من أوهامهم المحمومة حول ما قد تكون عليه الأمور إذا وصل اليمين المتطرف إلى السلطة. ولابد أن يكون الاختيار بين الأحزاب الفرنسية العتيدة والحزب القومي المتشكك في أوروبا والمعادي للمهاجرين، والتي قد تؤدي سياساته إلى إغراق البلاد في صراع مع الاتحاد الأوروبي. وربما يخجل الفرنسيون بالفعل من تشكيل حكومة "التجمع الوطني". لكن الكثير منهم يشعرون بخيبة أمل مريرة تجاه الأحزاب الأخرى (...). لمواجهة الحرب في أوروبا، وتراجع القدرة التنافسية، والحاجة الملحة إلى تعزيز حماية المناخ، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى فرنسا الملتزمة بالكامل. وإذا لم ينجح رهان ماكرون، فقد يحدث العكس قريبًا".
حسن زنيند