العبودية والعنصرية ـ كيف تعاملت دول الخليج مع ماضيها؟
١٢ فبراير ٢٠٢٢لا تزال دول الخليج العربية تئن تحت وطأة العبودية الحديثة التي تنتشر على نطاق واسع في ممارسات تنطوي على إجبار الملايين من العمال المهاجرين للعمل في ظل ظروف قاسية بأجور متدنية أو حتى بلا مقابل مادي. فحتى يومنا هذا، ما يزال "نظام الكفالة" سائدا في كثير من بلدان الخليج العربية وهو ما يسمح بتوظيف عمال أفارقة وآسيويين ليسوا على مستوى عال من المهارة فيما يتركوا جوازات سفرهم في أيادي أصحاب العمل ولا يمكنهم مغادرة البلاد أو تغيير وظائفهم من دون الحصول على إذن من أصحاب العمل.
بيد أن استفادة دول الخليج من السخرة أو العمل الجبري ليس بالأمر الحديث إذ كانت تنتشر في هذه المنطقة في الماضي العبودية بشكلها التقليدي حيث يُخطف الأفراد ويتعرضون للاسترقاق بعيدا عن أوطانهم بل كانت العبودية ممارسة قانونية في أجزاء كبيرة من منطقة الخليج حتى ألغيت أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وفيما يتعلق بالعبودية الحديثة، اتخذت بعض دول الخليج مثل قطر خطوات وإن كانت بطيئة للتعامل مع هذه القضية، لكن في المقابل
لا تزال دول الخليج تتغافل عن ماضيها في تاريخ العبودية ولا تعترف بالأمر بل يحظر في بعض الأحيان الحديث عن هذا الماضي.
عنصرية في السلوك اليومي
ويستلزم تطرق الحديث عن العبودية التحدث عن العنصرية التي يقول خليجيون من ذوي البشرة السمراء أنهم يتعرضون لها مثل ياسر خلف، وهو بحار من ذوي البشرة السمراء من البحرين في عامه السابع عشر والذي بسبب عمله يسافر بين موانئ دول الخليج.
وفي ذلك، يقول "تسير الأمور بشكل جيد.. عرب وبلوش وعرب من ذوي البشرة السمراء، لكن بمجرد وقوع صدام يمكن سماع ألفاظ عنصرية مروعة".
وفي هذا السياق، يقول مداح ج. وهو من ذوي البشرة السمراء من العراق لم يرغب في الكشف عن هويته، "ازدراءنا أمر سهل، فالناس لا يزالون يطلقون علينا لفظ عبيد، بل من الشائع أنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة مسيئة".
يعد مداح الذي عاش طيلة حياته في مجتمع من ذوي البشرة السمراء قرب ميناء البصرة العراقي، واحدا من قرابة مليون مواطن خليجي من أصل أفريقي ينحدرون من أسر وعائلات تم استرقاق أسلافهم في القرن التاسع عشر.
وفي ذلك، قال أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في الكويت، هشام العوضي، إن ليس كل الأفارقة الذين تم جلبهم إلى المنطقة جاءوا كعبيد، إذ أن البعض منهم وصل إلى المنطقة طواعية لأداء فريضة الحج أو للتجارة ثم قرر البقاء هنا نهائيا". وأضاف "هناك فئة من السكان الأفارقة الذين يعيشون في الخليج، ينحدرون من التزاوج بين بحارة وأهل البلاد أو التزاوج بين أفراد عاديين".
وفيما يتعلق بمداح، فهو لا يعرف من أين انحدر أجداده بشكل دقيق مثله مثل العديد من سكان الخليج من ذوي البشرة السمراء.
لكنه يشدد على استمرار نعته بكلمة "عبد" حتى اليوم، مضيفا "سواء أكان أجدادي عبيدا أو لا، فهذا ليس له صلة بالأمر، لأن من ينعتون السكان ذوي البشرة السمراء بلفظ عبيد، يعيشون في القرن الحادي والعشرين".
جزء مجهول من تاريخ دول الخليج
يشار إلى أنه منذ قرون، كان الرق ينتشر في منطقة الخليج، لكنه لم يزدهر حتى القرن حتى القرن التاسع عشر. في كتابه "عبيد لسيد واحد" والذي صدر عام 2015، يقول المؤرخ ماثيو إس هوبر إن امتلاك العبيد كان يدل على مكانة الشخص حيث اقتصر الأمر على مجموعة صغيرة من أفراد النخبة الثرية. وأضاف لم يكن العبيد أفارقة فقط بل جاءوا من أماكن مختلفة من الشرق الأوسط والقوقاز وشبه القارة الهندية.
بيد أن الأمر تغير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أدى ازدياد الطلب العالمي على التمور واللؤلؤ في منطقة الخليج إلى خلق حاجة ملحة للأيدي العاملة ما دفع التجار العرب في التفكير والإقدام على اختطاف الناس من شمال شرق أفريقيا وبيعهم في أسواق العبيد في الخليج.
لكن تجارة التمور واللؤلؤ انهارت عقب الركود العالمي الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي ما أدى إلى تحرير العديد من العبيد الذين كانوا يعملون في مزارع النخيل أو صناعة اللؤلؤ من قبضة الأشخاص الذين قاموا بشرائهم بسبب عجزهم عن تحمل نفقة هذا العدد الكبير من العبيد، حسبما ذكر هوبر.
بيد أن إلغاء العبودية لم يكن وليد اللحظة في هذه الحقبة من تاريخ منطقة الخليج إذ استغرق الأمر مرور عقود من الزمن حتى حظرت جميع دول الخليج رسميا العبودية والرق.
ففي أوائل عشرينيات القرن الماضي، ألغى العراق امتلاك الرقيق والاتجار بهم ، بينما اتخذت قطر والسعودية نفس الخطوة بين عامي 1952 و 1962.
وكانت سلطنة عمان – التي كانت في السابق أحد أكبر أسواق الرقيق في المنطقة- آخر دولة تحظر العبودية عام 1970.
قضية محظورة
ورغم حظر العبودية في شكلها التقليدي منذ عقود، إلا أن دول الخليج لم تقدم على مراجعة ماضيها في العبودية.
يرى الباحث المستقل في التاريخ الحديث لدول الخليج عبد الرحمن الإبراهيم أن القوانين الحديثة التي تم تمريرها لتعزيز الوحدة الوطنية حظرت التطرق إلى ملف "العبودية" تحت ذريعة أن مثل هذا الأمر قد يؤجج الانقسامات داخل المجتمعات الخليجية. وأضاف الإبراهيم أن هذا مثل عائقا أمام مهمة الباحثين في إجراء أبحاث عن تاريخ العبودية في الخليج بعد صدور قوانين الصحافة والطباعة والنشر في البحرين والكويت.
وفي مقابلة مع DW، قال "منعت هذه القوانين الأفراد بشكل عام والباحثين بشكل خاص من مناقشة القضايا الحساسة التي يحظر التطرق إليها، فحتى إذا تم الحديث عن ملف العبودية في الإطار الأكاديمي وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن الأمر من شأنه أن يثير استياءً شديدا". فعلى سبيل المثال، يقول الإبراهيم إن "ذكر أسماء العائلات التي تنحدر من عبيد تم تحريرهم، يعد أمرا يعاقب عليه القانون في الكويت".
بدوره، أكد أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية في الكويت هشام العوضي أن العقبات والتحفظات الثقافية تعد عقبة رئيسة، مشيرا إلى أن سكان دول الخليج من ذوي البشرة السمراء وأيضا الأقليات العرقية الأخرى لا يظهرون إرثهم العرقي والثقافي من أجل توحيد كلمتهم، لكنهم في المقابل يركزون على قضية التجنيس.
وفي مقابلة مع DW، أضاف "ينطوي الأمر بطريقة ما على الكيفية التي تتم بها إظهار الهوية الوطنية في الخليج حيث أننا نؤكد على التجانس بين شعبنا والقواسم المشتركة بيننا، لكننا لا نحتفل بهذا التباين".
أما بالنسبة لمداح، فيؤكد أنه وأقرانه ليسوا على استعداد للتحدث عن أصولهم الأفريقية وحقيقة أن العديد من الأفارقة تم جلبهم إلى الخليج كعبيد، مضيفا "طالما هناك خجل من الحديث عن الأجداد الذين كانوا يمتلكون عبيدا، فلا يمكن أن يشعر العرب من ذوي البشرة السمراء بالارتياح للحديث عن ماضيهم".
بعض التغيير، لكن بوتيرة بطيئة
ورغم ذلك، فقد أقدمت بعض بلدان منطقة الخليج على اتخاذ خطوات أولى في الاعتراف بماضيها من تاريخ العبودية.
فعلى سبيل المثال، افتتحت قطر عام 2015 متحف بيت بن جلمود الذي يعد أول متحف يركز على العبودية في العالم العربي إذ يتحدث بشكل صريح عن دور الإمارة الخليجية في الرق وتجارة العبيد التي كانت تدر أموالا كثيرة في الماضي البعيد بل يسلط الضوء على معاناة ضحايا العبودية.
ونقلت وكالة رويترز عن حافظ علي عبد الله، رئيس المتحف، قوله إن "التنمية تسير بوتيرة سريعة في قطر، لذا أردنا أن نلقي نظرة فاحصة في الكيفية التي تغيرت بها الأمور وكيف تأثرت قطر بالعبودية وكيف اندمج العبيد في المجتمع".
ويربط المتحف بشكل صريح بين الرق في الماضي والاتجار بالبشر والسخرة في العصر الحديث. وفي ذلك، قال عبد الله "لم تُطوى صفحة العبودية عام 1952. الناس في حاجة إلى التفكير في فداحة استغلال البشر اليوم وكيف يمكن تغيير ذلك".
أما الباحث المستقل في التاريخ الحديث لدول الخليج عبد الرحمن الإبراهيم فيشير إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت على تسليط الضوء على هذه القضية. وأضاف "يتطرق الناس بشكل متزايد على منصات التواصل الاجتماعي إلى قضية العبودية في الخليج وجذورها الاجتماعية والعرقية مع إشارة محددة إلى السكان ذوي البشرة السمراء. كان الجيل الجديد من الأكاديميين الخليجيين أكثر اهتماما بتاريخ العبودية خلال السنوات الأخيرة."
وقد أثر ذلك عن تحقيق بعض النجاح في الاعتراف بتاريخ العبودية في منطقة الخليج عندما نشر العوضي أول كتاب عربي يتطرق إلى هذه القضية.
وأضاف "في الماضي عندما كنا نتحدث عن تاريخ الخليج كان يقتصر الأمر على سكان الحضر والمشاهير والأثرياء والحكام والنخب وجاء ذلك على حساب تجاهل أو تهميش النساء والفقراء والعبيد والفئات التي لا صوت لها". وقال "ربما يدشن هذا الكتاب لحقبة ثقافية جديدة".
منير غيدي / م ع