المدن الجزائرية الجديدة - خطط طموحة وواقع مرير
٢٣ أبريل ٢٠١١اعتبر خبراء اقتصاديون ومهندسون معماريون قرار الحكومة الجزائرية إنشاء مدن جديدة خياراً استراتيجياً فرضته التحولات الديموغرافية والاقتصادية التي عرفتها البلاد في العقدين الأخيرين. ورمت الحكومة من وراء هذا المشروع إلى إيجاد حلول لحالة الاكتظاظ والضغط في المدن الموروثة من الحقبة الاستعمارية. وكانت هناك دراسات كثيرة أكدت على ضرورة إنشاء مدن جديدة بالمناطق الداخلية والصحراوية بما يضمن توزيعاً سكانياً مقبولاً على كل مناطق الجزائر. دويتشه فيله وقفت على واقع مدينتين تراهن السلطات عليها كثيراً من أجل حل بعض المشاكل المتشعبة التي يعاني منها سكان الساحل المتيجي.
مدينة سيدي عبد الله بين الحلم والواقع
راهنت الحكومات الجزائرية المتعاقبة كثيراً على مشروع المدينة الجديدة سيدي عبد الله التي تبعد عن العاصمة حوالي 20 كلم فقط، من أجل الدخول إلى القرن الواحد والعشرين بقاعدة علمية وتكنولوجية قوية. فقد أعطت مشروع المدينة الجديدة، الذي يمتد على مساحة 2650 هكتارا الأهمية القصوى من أجل استقطاب أكثر من 1000 مؤسسة صغيرة ومتوسطة متعددة النشاطات العلمية والتكنولوجية، إلى جانب إنشاء أقطاب جامعية وتكنولوجية ضخمة وأبراج وتجمعات سكنية فاخرة مع تخصيص أماكن للترفيه والتسلية تليق بمدينة القرن، كما يحبذ أن يسميها المسؤولون بوزارة البيئة وتهيئة الإقليم.
زيارتنا إلى المدينة الجديدة التي تقع على الحدود بين ولايتي الجزائر وتيبازة كشفت لنا الهوة الشاسعة بين أرقام الحكومة ومعطياتها من جانب وواقع المنطقة المرير من جانب آخر، كما يصفه سكانها. فلا شيء يشعرك أنك في مدينة العلم والتكنولوجيا، حيث تصدمك مبان قديمة من العهد الاستعماري وبيوت مترامية على حواف الطريق الكثيرة التعرجات.
منطقة سيدي بنور رمز الحرمان والعزلة
يعيش سكان منطقة "سيدي بنور"، التي تعد النواة الأساسية لمشروع المدينة الجديدة سيدي عبد الله، مأساة حقيقة، فهم يعانون عزلة حقيقية ولا يستطيعون اقتناء أبسط حاجياتهم اليومية إلا بالسفر إلى مدينة "المعالمة" التي تبعد حوالي 4 كيلومترات. وما زاد من معاناة هؤلاء كما يقول محي الدين، وهو أحد سكان المنطقة "انعدام المرافق الأساسية من متوسطة وثانوية ووسائل نقل من وإلى الحي السكني"، ويضيف محي الدين "إننا نعيش في بلدة صغيرة منقطعة عن العالم، وهم يقولون مدينة العلم والتكنولوجيا".
عبد الرحمن حارس الحديقة الصغيرة الواقعة أسفل الهضبة، التي شيدت بها سكنات سيئة التصميم تفتقر إلى أدنى ذوق جمالي. يتأسف عبد الرحمن قائلاًَ: "من المؤسف حقاً ضياع هذه الهكتارت من الأراضي الخصبة التي كانت تجود بألذ أنواع العنب، دون أن يحققوا ما وعدوا الناس به. لقد مرت عشر سنوات ولم يبق إلا أربع سنوات لانتهاء المشروع، ولا نرى إلا أكواماً من العلب الإسمنتية، تشوه المكان الذي كان من أجمل المناطق سحراً بمناظره الطبيعية الخلابة".
وعن وضيفته الجديدة يقول عبد الرحمن، الذي ولد في هذه المنطقة وترعرع فيها: "ولدت في كنف عائلة تمارس النشاط الفلاحي، ومارست مهنة آبائي وأجدادي، إلى أن سُلبت منا أراضينا مقابل الدينار الرمزي، فلم يكن أمامنا إلا أن نمتهن أي مهنة تكفيني وأولادي مهانة السؤال وبؤس الحرمان". حال عبد الرحمن مثل المئات من الفلاحين الذين تحولوا إلى وظائف ومهن لم يكن لهم عهد بها مثل أعمال البناء وحراسة المنشآت وقيادة الشاحنات.
مدينة بوينان .. برميل البارود المهدَّد بالانفجار
حمل مشروع مدينة "بوينان" الجديدة الكثير من المتاعب والكوابيس التي ما زالت تلاحق السكان إلى اليوم رغم مرور أكثر ثمانية سنوات على إعلان إنشاء المدينة الرياضية الجديدة على الطراز العالمي، التي تقع على بعد 50 كلم جنوب العاصمة. ويتهم سكان البلدية المتميزة بطابعها الفلاحي السلطات العليا في البلاد بتعطيل حياتهم وإدخالهم في دوامة من المشاكل التي لا مخرج لهم منها، من أجل مشروع مصيره الفشل قبل تجسيده على أرض الواقع.
ويقول المهندس عبد الرزاق حبطوش "إن الدراسات التقنية التي أقامتها شركة "دايو" الكورية للبناء والتشييد، لم تراع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للسكان الأصليين، فغالبيتهم ليسو مستعدين للعيش في عمارات والعمل خارج قطاع الفلاحة التي تمثل مصدر رزق 85 بالمائة من السكان الذين يصل تعدادهم 40 ألف نسمة". ويضيف حبطوش بالقول: "كما أنهم يرفضون أن يجتثوا من أراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم مقابل توطين أشخاص آخرين غرباء عن المنطقة وعاداتها".
واستنكر أغلب سكان بلدية بوينان الذين تحدثت إليهم دويتشه فيله قرار السلطات تجميد منح رخص البناء منذ 2003، والذي أتبع بقرار تجميد عملية بيع الأراضي التابعة للخواص سنة 2009. قرارات كان لها الانعكاس السلبي على وتيرة التنمية والتشييد. ويشتكي عمي مسعود الذي قضى أكثر من 40 سنة من عمره في حرث الأرض والاعتناء بالأشجار المثمرة بالقول: "لست أدري كيف يفكر هؤلاء المسؤولون، في الوقت الذي يشتكون من ارتفاع فاتورة الغذاء يقومون بتدمير المناطق الزراعية الخصبة بالاسمنت المسلح، ويُهجّرون الفلاحين من أراضيهم لينضموا لجيوش العاطلين عن العمل".
ويضيف مسعود تعليقاً على قرار تجميد منح رخص البناء "في الوقت الذي كنا ننتظر أن تدعمنا الدولة بمشاريع السكن الريفي، يحرموننا من بناء منازلنا بسواعدنا، ويتركوننا نعيش في أكواخ القصدير". ويأمل سكان أحياء بلدية بوينان إلغاء مشروع المدينة الجديدة حفاظاً على المستثمرات الفلاحية والأراضي الزراعية، وتوجيه الأموال المرصودة للمشروع لبناء مدن أخرى في مناطق تحقق أهداف وغايات المشروع دون الإضرار بالأراضي الخصبة التي تتآكل يومياً أمام غزو الاسمنت الشامل.
الخيار الاستراتيجي يبقى قائماً
ويرى الخبير الاقتصادي عبد الوهاب بوكروح أن سبب تعطل مشاريع المدن الجديدة سيدي عبد الله وبوينان وبوغزول يعود في الأساس "إلى تغير الأولويات بالنسبة للسلطات الجزائرية، حيث وجدت نفسها أمام أولويات مستجدة، منها التركز البشري العشوائي حول حواف المدن التقليدية بسبب الأزمة الأمنية التي مرت بها البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي".
وعن جدوى هذه المشاريع يقول بوكروح "إن إقامة مدن جديدة لا يزال خياراً استراتيجياً يجب أن تعطى له الأولوية التي يستحقها، خاصة مع الارتفاع الكبير في عدد ساكني المدن الشمالية التي تتركز بها أغلب النشاطات الاقتصادية، حيث يجب أن نستغل الطفرة المالية التي تعيشها الخزينة العمومية لتجسيد مشاريع هذه المدن على أرض الواقع". ويضيف لدويتشه فيله "لكن يجب التأكيد على ضرورة مراجعة الدراسات التقنية، و السوسيو-اقتصادية لهذه المشاريع التي يبدو أن الزمن تجاوزها، حتى تحقق هذه المشاريع التوازن المنشود من طرف الدولة الجزائرية".
توفيق بوقاعدة- الجزائر
مراجعة: عماد م. غانم