تدخل الدولة المباشر في الحياة الاقتصادية يعيد الاعتبار للرأسمالية الاجتماعية
٢٩ أكتوبر ٢٠٠٨من المرجح أن عالم المال والأعمال كان سيقيم الدنيا دون أن يقعدها لو أقدمت الحكومات الغربية قبل بضع سنوات على التدخل المباشر في الاقتصاد كما فعلت منذ أواسط سبتمبر/ أيلول الماضي. ولم يقتصر هذا التدخل على وضع حد للمضاربة بالقروض والسندات، بل شمل أيضا تخصيص مئات المليارات لدعم البنوك المتعثرة على أساس حمايتها من الانهيار على غرار ما حل بالبنوك الاستثمارية الأمريكية وفي مقدمتها بنك ليمان براذر. غير أن هذا الدعم لن يكون بدون مقابل، إذ ستقوم الحكومات بتملك حصص من البنوك التي تستفيد من الدعم، إضافة إلى التدخل في سياساتها وإداراتها بشكل يُراد منه الحد من شراهتها للمضاربة وتحقيق الأرباح الوهمية.
حملة شبه شعواء ضد تدخل الدولة في الاقتصاد
خلال السنوات العشرين الماضية، شهد الغرب حملة شبه شعواء قام بها دعاة اقتصاد السوق الحر بشكل شبه مطلق ودعاة العولمة ضد تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وتحت وطأة نفوذهم المتعاظم ومطالبهم بتعميم النموذج الأمريكي، إضافة إلى وطأة تحديات العولمة، قامت الحكومات الأوروبية بتقليص نفوذ الدولة في القطاعات بما فيها الإستراتيجية منها. وهكذا شهدت بريطانيا تحت حكم مارغريت تاتشر خصخصة قطاعات البنية التحتية بشكل جذري شمل حتى مياه الشرب. وفي ألمانيا تمت خصخصة معظم مؤسسات القطاع العام، إضافة إلى تقليص الضمانات الاجتماعية في إطار "أجندة 2010" التي دفعها المستشار السابق غيرهارد شرودر إلى واجهة اهتماماته السياسية. وشهدت إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وهولندا سياسات خطوات مماثلة شكل هدفها الأساسي تحسين مستوى الأداء والمنافسة على الصعيد العالمي.
العولمة جاءت بلاعبين جدد على الساحة الدولية
غير أن الأمر لم يطل كثيرا حتى اكتشف دعاة السوق الحر بشكل شبه مطلق أن كل من العولمة والخصخصة سلاح ذو حدين، فقد أظهرت تجربة بريطانيا أن خصخصة قطاعي السكك الحديدية والمياه لم تؤد إلى النتائج المرجوة منها على صعيدي تحسن مستوى الخدمات وتقديمها بأسعار مناسبة. وفي ألمانيا ظهرت تجارب مماثلة في قطاع الطاقة. وعلى ضوء ذلك، علت أصوات تطالب بإعادة النظر في عملية خصخصة هذه القطاعات على أساس أنه كان من الأفضل لو بقيت في يد الدولة.
أما العولمة، فقد ساعدت على ظهور لاعبين اقتصاديين جدد على الساحة الدولية كالصين والدول المصدرة للنفط والمواد الأولية الأخرى كروسيا والدول العربية النفطية. ومع توجه هؤلاء اللاعبين من خلال شركاتهم العابرة للحدود وصناديقهم السيادية لاستثمار جزء من أموالهم في الغرب عبر تملك شركات هامة أو حصص منها، بادرت حكومات غربية للتدخل من أجل منع ذلك لأن مثل هذا التملك يهدد الأمن القومي بنظرها.
واشنطن المنادية بالتجارة الحرة كانت سباقة إلى الحمائية
وهكذا منعت الإدارة الأمريكية التي نادت دائما بالعولمة والتجارة الحرة شركة موانئ دبي العالمية من تملك مرافئ أمريكية، وأعلنت الحكومة الألمانية أنها لن تسمح بتملك مستثمرين روس لحصص هامة في شركة الاتصالات الألمانية (دويتشه تيليكوم). ولم يقتصر الأمر على منع تملك كهذا، بل تجاوزه إلى اتخاذ إجراءات حمائية ضد استيراد بعض السلع حتى بين الدول الصناعية نفسها. ولعل خير مثال على ذلك الرسوم الجمركية العالية التي فرضتها الإدارة الأمريكية الحالية على استيراد الحديد والصلب من شرق آسيا ودول الاتحاد الأوربي لحماية إنتاجها الوطني.
تزايد المطالبة باقتصاد السوق الاجتماعي
ومع اشتداد الأزمة المالية الحالية وتحولها إلى أزمة اقتصادية عالمية، لم يتوقف تدخل الحكومات على المشاركة في ملكية المؤسسات المالية، بل تجاوزه إلى التفكير جديا بتأميم جزئي للشركات الرئيسية في مجالات الإنتاج والخدمات. وقد دعا الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حاليا، إلى تأسيس صندوق أوروبي خاص لهذا الغرض.
وفي الوقت الذي رفضت فيه الحكومة الألمانية هذا الاقتراح، فإن حدة النقاش في ألمانيا ازدادت مؤخرا حول المدى المطلوب الذهاب فيه على طريق الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق الحر. وفي هذا الإطار، تتزايد الدعوات من قوى وشخصيات تنتمي إلى مختلف التيارات السياسة للعودة إلى الاستفادة من تجربة الرأسمالية الاجتماعية أو اقتصاد السوق الاجتماعي التي كانت وراء "المعجزة الاقتصادية الألمانية" في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ويمكن رؤية إعلان الحكومة الألمانية عن عزمها على دراسة وتنفيذ برنامج إنعاش اقتصادي يقوم على استثمارات حكومية إضافية في التعليم والحفاظ على فرص العمل كخطوة على طريق إعادة الاستفادة من هذه التجربة. ويتوقع مراقبون كثيرون إقدامها على خطوات إضافية على هذا الصعيد، لاسيما إذا اشتدت حدة الأزمة وعجز القطاع الخاص عن تدارك المزيد من التدهور في مختلف القطاعات الاقتصادية.