ثقافة اقتناء السلاح .. كيف نشأت وتجذرت في المجتمع الأمريكي؟
٢٨ مايو ٢٠٢٢كان ذلك في العام 1776، مستعمرات القارة الأمريكية أعلنت للتو استقلالها عن بريطانيا العظمى، واحتدم الجدل بين الآباء المؤسسين للدولة الفتية: هل يحق للأمريكيين حمل السلاح فرديّاً؟ أم فقط إن كانوا عناصر في ميليشيات محلية؟
الاستثمار في الخوف
فمع الوقت، اقترن إرث حرب الاستقلال بحسب الخبراء بقناعة متزايدة لدى الأمريكيين، بأن عليهم امتلاك أسلحة للحفاظ على سلامتهم، وهي قناعة تستند إلى أسطورة كاملة أسبغت عليها دلالات دينية.
وما شجّع إلى حدّ بعيد على هذا التطور، قطاع صناعة الأسلحة الذي لعب على وتر العنصرية والخوف من انعدام الاستقرار، برأي راين باس، أحد قدامى هذا القطاع. كتب باس هذا الأسبوع في مجلة "ذي بولوارك" الإلكترونية أن المجازر الأخيرة "هي النتاج الثانوي لنموذج صناعي مصمّم للاستفادة من تأجيج الكراهية والخوف ونظريات المؤامرة".
كانت الأسلحة النارية ضرورة لا غنى عنها في سبعينات وثمانينات القرن الثامن عشر في البلد الناشئ. وامتلاك سلاح ناري كان يعني الوقوف بوجه الأنظمة الملكية المستعمرة، وخصوصا الجيش البريطاني.
وأشاد جيمس ماديسون الذي يعرّف عنه على أنه "أبو الدستور" الأمريكي، بـ"ميزة امتلاك السلاح التي يتفوق بها الشعب (الأمريكي) على كل البلدان الباقية تقريبا".
وبمواجهة حكومة فدرالية لا تزال متلعثمة، حرصت أولى الولايات الأمريكية على وضع قوانينها الخاصة والاحتفاظ بسلاحها.
فهل أن الأسلحة النارية فعلا أساسية لمكافحة الطغيان؟ ألا يجدر الاعتماد على ميليشيات محلية منظمة؟ لكن هذه الميليشات نفسها ألن تتحول بدورها إلى قوة طغيان؟
إنّه جدل يصعب فهمه خارج الولايات المتحدة، وخصوصا في أوروبا حيث مفهوم الأمن يحكمه ما اختزله عالم المجتمع الألماني ماكس فيبر بعبارة "احتكار العنف المشروع"، أي فكرة أن يعول المواطنون على قوات حفظ النظام للدفاع عنهم لقاء التخلي عن تحقيق العدالة بأنفسهم.
وهذا المفهوم أبعد ما يكون عن التسوية التي تم التوصل إليها عام 1791 وأرساها ما يعرف بالتعديل الثاني للدستور الأمريكي، وجاء فيه "بما أن ميليشيا منظمة بشكل جيد ضرورية لأمن دولة حرة، لا يجوز انتهاك حق الناس في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها".
الهنود والعبيد
خلال القرنين التاليين، تحوّلت الأسلحة النارية إلى عنصر أساسيّ في أسطورة الولايات المتحدة وتاريخها بصفحاته المجيدة كما القاتمة. فهل يمكن تصوّر روّاد الغرب الأمريكي يواجهون بيئة طبيعية معادية ويحاربون قطّاع طرق وخارجين عن القانون بدون بنادقهم؟ أو أبطال أفلام الويسترن يخوضون مغامراتهم بدون سلاحهم؟
يشير ديفيد يامان، الأستاذ في جامعة وايك فورست الذي كتب عن هذا الانتقال من "ثقافة أسلحة نسخة أولى" إلى "ثقافة نسخة ثانية"، إلى الدور الدموي الذي لعبته الأسلحة النارية في إرضاخ القبائل الهندية والسيطرة على العبيد.
ما دور الحزب الجمهوري؟
وبحلول بداية القرن العشرين، ومع توسّع المدن وانتشارها المتزايد، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مستويات عنف بسبب الأسلحة النارية لا تقارن بالدول الأخرى. وأحصى المؤرخ ريتشارد هوفشتادتر أكثر من 265 ألف جريمة قتل بالأسلحة النارية بين 1900 و1964. واتخذت السلطات الفدرالية إجراءات، منها حظر البنادق الرشاشة عام 1934، وإلزام مالكي الأسلحة بالتصريح عنها.
بموازاة ذلك، فرضت الولايات نفسها قيودا، فمنعت على سبيل المثال حمل السلاح في العلن.
وكان الرأي العام مؤيدا لضبط الأسلحة، إذ أعرب 60% من الأمريكيين عام 1959 عن تأييدهم لحظر الأسلحة النارية كليا للأفراد، بحسب استطلاع للرأي أجراه معهد غالوب. غير أن أي مساع بهذا الصدد اصطدمت بالحملات الشديدة التي شنتها دفاعا عن حق حمل السلاح شركات الأسلحة و"الجمعية الوطنية للبنادق"، لوبي الأسلحة الذي بات ذائع الصيت. ونجحت هذه الحملات حتى في منع فرض قيود تحد من استخدام السلاح ولو بدون حظره. ولم يبق سوى حظر على بيع الأسلحة النارية بالمراسلة، وحتى هذا الحظر يمكن بسهولة الالتفاف عليه.
بعد ذلك، وقفت الجمعية الوطنية للبنادق صفا واحدا مع الحزب الجمهوري للدفاع عن التعديل الثاني للدستور، باعتباره كرّس "الحق الجوهري" في امتلاك أسلحة نارية وفق تفسيرها له.
وأوضح ماثيو لاكومب الأستاذ في كلية بارنارد أنه من أجل الوصول إلى هذا التفسير، نسج اللوبي أسطورة حقيقية حول الأسلحة النارية يغرف منها حاملو الأسلحة لحيازة مكانة اجتماعية.
وباتت الأسلحة أداة بالغة الأهمية لتحديد الهوية السياسية، ولا سيما في الأرياف التي لطالما سعى الجمهوريون للاحتفاظ بالسيطرة عليها على حساب الديموقراطيين.
تحالف لوبي السلاح مع اليمين الديني
كما تشير جيسيكا داوسون الأستاذة في كلية وست بوينت العسكرية إلى الرابط الذي أقامه لوبي الاسلحة مع اليمين الديني. وكتبت أن اللوبي "بدأ يستخدم تعابير ذات دلالة دينية ليرتقي بالتعديل الثاني عن القيود التي اقرتها حكومة علمانية". ولم تثمر هذه الإستراتيجية عن نتيجة على الفور، بل بدأت مبيعات الأسلحة تتراجع مع صرف الأمريكيين اهتمامهم تدريجيا عن الصيد ورياضة الرماية.
وبحثا عن وسيلة تسويق جديدة، ركزت الجمعية الوطنية للبنادق والشركات المصنعة على استخدام آخر للأسلحة النارية، وهو الدفاع عن النفس، بحسب ما أوضح راين باس. عندها بدأ بث إعلانات تصوّر أعمال شغب وعمليات سرقة، وتعرض ترسانة حقيقية من المعدّات "التكتيكية" بدءا بالسترات الواقية من الرصاص وصولا إلى الأسلحة الثقيلة، وذلك في وقت كانت البلاد تشهد صعود الحركات المروجة لنظرية تفوّق البيض مع انتخاب باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
وواجهت بعض الولايات تفاقم العنف بقوانين تجيز حمل السلاح بدون ترخيص، ما شكل منعطفا برأي ديفيد يامانستند، وأدى إلى تزايد المبيعات لدى مختلف فئات السكان.
واعتبارا من العام 2009، سجلت المبيعات زيادة كبيرة وصولا إلى أكثر من عشرة ملايين قطعة سلاح في السنة منذ 2013، مع تسجيل طلب هائل على الأسلحة شبه الأوتوماتيكية.
وكشفت "الدراسة الاستقصائية للأسلحة الخفيفة" في حزيران/يونيو 2018 أن الأمريكيين كانوا يملكون حوالى 45% من الأسلحة النارية المدنية المنتشرة في العالم في أواخر 2017، في حين أنهم لا يمثلون سوى حوالى 4% من سكانه.
خ.س/ص.ش (أ ف ب)