حوار العود والبيانو: تواصل نغمي بين الثقافات
١٩ يونيو ٢٠٠٧يقدم الموسيقي طه حسين رهاك من خلال ثنائي "بساتين" نموذجا ناجحا للمزج بين الموسيقى العربية والغربية. حيث يشترك عازف العود العراقي رهاك مع عازفة البيانو الروسية لودميلا شولر في تقديم مقطوعات تهدف إلى خلق جسر بين الثقافات وإبداع نوع من التواصل النغمي بينهما. وقدم الثنائي حفلات ناجحة في معظم العواصم الأوروبية والعربية، آخرها كان في العاصمة العمانية مسقط.
جاء قرار رهاك بتكوين الثنائي الموسيقي كمحاولة لحل الصراع الداخلي بين الحنين للوطن وبين الواقع الغربي حيث يعيش منذ أكثر من ثماني وعشرين سنة في الغربة. فقد بدأ رهاك مشواره الفني في بغداد بتلحين الأغاني السياسية وكذلك أغاني الأطفال، وفي عام 1979 تم اعتقاله عدة مرات بسبب انتمائه لجماعة يسارية، ثم تم ترحيله عن العراق عبر الحدود التركية إلى ألمانيا الشرقية حيث يعيش إلى اليوم.
التقينا بالفنان العراقي في الحديقة الشرقية ببرلين، بعد إحدى حفلاته المفعمة بالأجواء الشرقية وأجرينا معه هذا الحوار:
دويتشه فيله:الفنان يحيا و يبدع داخل الوطن وقرار الرحيل بالنسبة له قرار صعب لأنه يعني ابتعادا عن مصدر الإلهام. ما هي ظروف رحيلك عن العراق؟
رهاك: لم يكن قرار الرحيل قرارا اختياريا، أو لنقل لقد كان أمامي اختيارين، أحلاهما مر، إما الارتماء في أحضان النظام أو النفي، فاخترت النفي لأن بقائي كان يعنى الموت. وبعد عام واحد من ترحيلي إلى ألمانيا، قررت العودة، لكني لم أستطع الوصول إلى بغداد، فبحثت في سوريا عن وطن بديل، وقدمت هناك العديد من الأعمال الموسيقية و المسرحية، واشتهرت باسم أبو أحلام، وعدت إلى تلحين الأغاني للفرق السورية و الفلسطينية، التقيت هناك بالمخرج جواد الأسدي و الذي طلب مني العمل معه في مسرحياته كملحن، فقدمت معه مسرحيات كثيرة مثل "حكاية زهرة البغدادية" و"مصرع عامل"، كما عملت كذلك مع المخرجين فواز الساجر و أيمن زيدان و غيرهم. وتحققت كفنان في سوريا، لكني شعرت دائما بالمرارة بسبب ما يحدث في العراق، و لكني وعلى الرغم من ذلك استطعت أن أعبر كل الحواجز لأنجز فنا باسم العراق، وهذا هو الرهان.
يعاني الإنسان في الغربة ـ على الأقل في البداية ـ من صعوبات في الدخول إلى المجتمع الجديد. كيف استطعت التغلب على هذه الصعوبات لتبدأ مشوارك الفني في أوروبا والذي تبلور نجاحه في ثنائي العود و البيانو؟
سأكمل لك، في سوريا لم أشعر بالغربة، بسبب محبة الناس، ولكن بعد فترة انهيت إقامتي هناك واضطررت إلى العودة لبرلين، وساعدتني زوجتي الألمانية في فهم طبيعة الثقافة هنا وطبيعة المجتمع وكأي فنان لم أتحمل الحياة بلا إبداع، وعملت بمسرح الشعب ببرلين في مسرحية لجوته، مما أعاد لي الأمل في مواصلة مشواري الفني، وبدأت في اكتشاف عالم الموسيقيين في أوربا، وعشقت موسيقى شوبارت، وقررت تأسيس ثنائي للعود و البيانو، ثنائي "بساتين"، مزج نغمات العود و البيانو هو رغبة لخلق نوع من التواصل النغمي بين العالمين، و هذا هو أيضا محاولة مني لحل صراعي الداخلي، بين الحنين للوطن والدم الشرقي و بين الواقع الغربي الذي أعيش به منذ أكثر من ثماني و عشرين سنة.
طبيعة الجمهور العربي تختلف بالضرورة عن طبيعة الجمهور الغربي فيما يخص تلقي الفن عموما والموسيقى على وجه الخصوص، كيف أثر اختلاف طبيعة الاستقبال على شكل موسيقاك، لاسيما في العراق و سوريا و في أوروبا؟
بعيدا عن جمهور العراق، الذي كان في الأغلب جمهورا نخبويا، أعتقد أن المتلقي العربي في سوريا استقبل أعمالي بوجدانه واستطاع أن يستخلص و أن يستوعب إحساسي، رغم أنني طالما استخدمت تيمات موسيقية غربية في أعمالي. فالجمهور العربي يتلقى الموسيقى بقلبه يستمتع بها ويطرب لها، وذلك على العكس من الجمهور الغربي الذي يتلقى الموسيقى بعقله، ويستقبل أعمالي باعتبارها جزءا من عوالم ألف ليلة و ليلة، مما يجعلني أكثر تركيزا على الأجواء الشرقية في أعمالي الأخيرة .
خلال فترة الغربة كانت الموسيقى بالنسبة لك هي الوطن كما تقول، و كما علمت منك أنك لم تسافر إلى العراق منذ رحيلك و حتى الآن أي أكثر من ثماني و عشرين سنة، فكيف يمكن للمويسقى أن تكون تعويضا للفنان عن الوطن ؟
بعد خروجي من العراق كنت مقطوعا و مبعدا من كل شيء من الوطن من الأسرة، و رفيقي الوحيد المخلص هو العود، فالموسيقي هي الرفيق الوحيد الذي يبقى لك إلى الأبد و لا يمكن لأحد أن ينفيك عنه، منذ نهاية السبعينات وحتى التسعينات كانت الاتصالات بيني و بين أسرتي مقطوعة، رغم محاولاتي الدائمة للوصول إليهم، لقد تركت أبي و أمي و أخواتي السبع، ولمدة قاربت العشرين عاما لم أستطع أن أسمع صوتهم أو حتى أن أراسلهم، فأنت تعرفين الأوضاع في بغداد، وفي التسعينات رن جرس الهاتف بمنزلي وكان صوت أبي، وصمت عن الكلام ثم بدأت في البكاء، وقدمت بعدها أجمل حفلاتي لقد أفصحت بأسراري جميعها للعود. و بعد 17 عاما من الغربة استطاعا أبي و أمي زيارتي في برلين، وأثناء وجوده بألمانيا أخبرني بأنهم أسقطوا عني الجنسية العراقية وكان الخبر مؤلما له ولي ولم يكن لي ملجأ من الحزن سوى العودة لأحضان الموسيقى وأدركت لحظتها استحالة عودتي للعراق و استحالة انفصالي عن الموسيقى فهي دوائي و حكي لي أبي عن أخوتي الذين تركتهم أطفالا، و بدأ كلانا بالحكي والثرثرة ولعب الموسيقي التي طالما جمعتنا، كمحاولة يائسة لتخطي الزمن الذي فصلنا أعواما طويلة عن بعض، وبعدها بفترة قصيرة توفى أبي ببغداد ولم أستطع حضور جنازته. أبي الذي قابلته ببرلين لم يكن أبي الذي تركته منذ سنوات في بغداد، كان رجلا أخر، و أنا أيضا أصبحت شخصا أخر، لكن أمي لم تتغير، مازالت كما هي بسيطة و بريئة كعادتها، والرابط السري الوحيد بيني و بينهم هو الموسيقى / الوطن .
ما الذي يمكن أن يقدمه الفنان لوطنه و لأسرته وهو في الغربة، وهم على الناحية الأخرى يدفعون كل دقيقة ثمنا لغربته؟
لم أرى أخوتي منذ عام 1979، استشهد ثلاثة منهم، واحد في عهد صدام، و اثنان العام الماضي في عملية إرهابية ببغداد أثناء عودتهم من العمل، وأبي عاش الكثير من سنوات عمره بين أسوار المعتقلات، هذا هو ما قدمته أسرتي للوطن، ما قدمته أنا لأسرتي ولوطني هو فني ومازلت أبدع باسم العراق بطبيعة الحال. أطفال أخوتي أعرفهم فقط من الصور والخطابات وهم يتعرفون علي من خلال أعمالي الموسيقية، فهم يتابعون نشاطي الفني دائما ويفتخرون كثيرا حين تذاع أحد أعمالي بالتلفزيون العربي، وهم يرجون في أيضا أبا، رغم المسافة التي تفصلنا، وعندما يشاهدون أحد أعمالي في القنوات العربية يتصلون بي في لحظتها وأصواتهم تحمل قدرا من السعادة والحب وقدرا أخر من وجع البعاد. ورغم رغبتي القوية في العودة للعراق، إلا أنني أخاف أن تتشوه صورة العراق الجميلة في ذهني، التي هي مصدر إلهامي ومنبع إبداعي، فأنا أتمسك بما تبقى لي في الذاكرة من الوطن، ضفة دجلة الساحرة، الحياة الهادئة على الضفة الأخرى من النهر، بيتنا القديم .... من المؤكد أن كل ذلك قد تغير أو تدمر، و لكني مدرك أن الوطن في موسيقاي أجمل بكثير من الواقع، و أنا ما أفعله هو أنني أعرض هذا الوطن الجميل ـ بمساعدة الموسيقى ـ للعالم.
الفنان له دور في بناء الوطن، فهل هجرة الفنان عن الوطن هي نوع من الهروب من هذا الدور؟
الوطن يا عزيزتي هو حلما جميل بذاكرتي و ليس حدودا على الخريطة، و الفن هو وسيلتي لبناء وطن. قد يكون الوطن أيضا هو أسرتي العراقية البسيطة، التي لم يبقى منها سوى أطفالا يشاهدون الموت يوميا في الشوارع .... بعد موت أخواي العام الماضي انهدم ما تبقى من حلم العراق بداخلي، والموسيقي هي عزائي وسلاحي الوحيد الآن لبناء الوطن. بعض الفنانين الذين بقوا في العراق اضطروا لبيع أنفسهم للنظام وانكسروا بداخلهم، والعراق اليوم ليس عراقهم فهي خليط غير متجانس من البشر، يعانون جميعهم صراعا طائفيا يديره الأذكياء لصالحهم و يلعب فيه الأغبياء أدوار البطولة والضحية هو الشعب، وما أقدمه الآن في غربتي للوطن أكثر فاعليه مما كنت سوف أقدمه لو بقيت بالعراق. أعتقد أن موتي بالعراق لم يكن ليقدم شيئا للوطن.