زيارة البابا لاسطنبول - رسالة سلام وإشارة تعايش بين الأديان
٧ ديسمبر ٢٠١٤هل يتم تحريك نوافذ سيارة البابا كهربائيًا؟ أم بواسطة مقبض يدوي؟ هذا لا يهم، فلحسن الحظِّ أنَّ في تركيا شتاء أيضًا، ولا أحد يفتح نوافذ السيارة. وبما أنَّ البابا لا يجلس شخصيًا أمام عجلة القيادة، فعلى الأرجح أنَّ نظام التوجيه المعزَّز وقوة المحرِّك في سيارته المستأجرة لا يمثِّلان بالنسبة له قدرًا كبيرًا من الأهمية. ولكن مع ذلك فقد كانت السيارة في اليوم التالي أهم موضوع في الكثير من وسائل الإعلام التركية -السيارة الفرنسية الصغيرة التي تنقَّل فيها البابا فرانسيس أثناء زيارته الأولى لتركيا. يبلغ سعر هذه السيارة -التي أثارت الاهتمام- ثلاثين ألف ليرة تركية، مثلما تحقَّق من ذلك على الفور بعض الصحفيين المتحذلقين، أي ما يعادل نحو عشرة آلاف يورو فقط وليس أكثر. بعض كتَّاب الأعمدة الصحفية لم يكادوا يستطيعون تصديق ذلك.
من الممكن أن نفهم اهتمامهم هذا، إذا علمنا أنَّ ثمن سيارة الرئيس التركي الليموزين يبلغ بالمقارنة مع ثمن سيارة البابا بالضبط مليون ليرة تركية. أي ما يعادل ثَمَن السيارة البابوية الرخيصة مضاعفًا نحو ثلاثة وثلاثين مرة. ويا له من اختلاف كبير!
وفيما عدا ذلك لم يكن من الممكن أيضًا لهذين الرجلين، الذين التقيا ببعضهما نهاية الأسبوع الماضي في أنقرة، أن يكونا مختلفين أكثر. هنا رجل الكنيسة اللطيف القادم من روما، والذي رفع التواضع شعارًا له وقد أقام في دور ضيافة بسيطة. وهناك "سلطان منطقة البوسفور"، الذي يُحدث ضجة من حوله وقد بنى لنفسه للتو قصرًا رئاسيًا يضم أكثر من ألف غرفة. لقد تم بالذات تكريم البابا فرانسيس باستقباله كأوَّل ضيف في هذا القصر.
ومثل كلِّ شيء في تركيا هذه الأيَّام، فإنَّ زيارة البابا أيضًا كانت أخيرًا وليس آخرًا مسألة تتعلق بتأييد أو بمعارضة إردوغان. حيث كان أتباعه فخورين بأنَّ رئيسهم قد استقبل ضيفه في مثل هذا القصر. في حين أنَّ معارضيه السياسيين وجدوا ذلك محرجًا. وحتى أنَّ هناك مجموعة من الناشطين كانت قد دعت الفاتيكان قبل فترة قصيرة من هذه الزيارة إلى مقاطعتها. وقالوا إنَّه لا يمكن للبابا فرانسيس أن يسمح بأن يتم استقباله في هذا المبنى الباذخ الذي تم بناؤه من أموال الضرائب التركية. ولكنهم -وكذلك جميع الآخرين الذين كانوا في السر يأملون في حدوث ضجة- أصيبوا بخيبة أمل. فالبابا فرانسيس لم يأتِ إلى ضفاف مضيق البوسفور من أجل إعطاء إردوغان دروسًا وتوجيهات.
"القرآن كتاب سلام"
لم يكن الهدف من هذه الزيارة الحديث حول الصراعات، بل حول الحوار والتوافق، حيث التقى البابا فرانسيس في اسطنبول المسيحيين الأرثوذكس، وزعيمهم الروحي البطريرك المسكوني بارطولوميوس الأوَّل، وبطبيعة الحال التقى البابا أيضًا المسلمين (ومفتي اسطنبول). وأكَّد البابا فرانسيس على أنَّ "القرآن كتاب سلام"، وانحنى متضرعًا للرب في المسجد الأزرق بصورة ذات دلالة رمزية وهو متجهٌ باتجاه القبلة نحو مكة المكرمة.
ومن خلال هذه اللفتة تمكَّن البابا في لمح البصر من كسب تعاطف الأتراك، الذين لم يكونوا معروفين حتى ذلك الحين بأنَّهم من محبي البابا. فقد كان سلف فرانسيس، البابا بنديكت السادس عشر لا يزال في ذاكرتهم كشخص يعتبر قبل كلِّ شيء معاديًا للإسلام بسبب خطابه المشهور الذي ألقاه في جامعة ريغنسبورغ الألمانية.
وفي زيارة البابا فرانسيس هذه ومع مثل هذا القدر من الحاجة إلى التوافق والانسجام، لم يحظَ حتى وضع الأقليات الدينية في تركيا المعروف بتعقيداته بما يستحق في الواقع من اهتمام. وضمن هذا السياق قال البابا: "حرية الدين والتعبير عن الرأي، المضمونة للجميع بشكل فعَّال، تُعزِّز ازدهار الصداقة وهي رمز للسلام". هذا أمر حسن. ولكن هل كان هذا الآن انتقادًا؟ أم كان أملاً؟ أم مديحًا وإطراء؟
ربما من الأجدر هنا ببساطة أن يفهم كلّ شخص ما يناسبه. فعلى الأرجح أن يكون المراقبون الغربيون قد ابتهجوا لذكر حرية الدين والتعبير عن الرأي، ولا بدّ أن السياسيين الأتراك -مع مثل هذا القدر من الدبلوماسية- لم يجدوا أي سبب كي يشعروا بأنَّهم تعرَّضوا لهجوم. وذلك أيضًا لأنَّ تصريح البابا الذي يفيد بأنَّه "لأمر أساسي أن يتمتَّع جميع المواطنين المسلمين واليهود والمسيحيين بالحقوق نفسها سواء في الأحكام القانونية أو في تنفيذها على أرض الواقع، وأن يحترموا الواجبات نفسها"، لم يكد على الأرجح يُقلق مضجع رجب طيب إردوغان.
ولكن لنكن صادقين: ماذا كان من الممكن أن يتوقَّع المرء أيضًا -ماذا كان من الممكن أن يفعل البابا فرانسيس؟ إنَّ كلَّ شخص يمعن النظر قليلاً يعرف أخيرًا: أنَّ مشكلة الأقليات التي يبلغ عمرها عقودًا من الزمن في تركيا، ليست شيئًا يمكن إيجاد حلّ له من خلال اختيار الكلمات المناسبة. لقد سارع إردوغان في إخبار ضيفه بأنَّ "تركيا فعلت في الأعوام الأخيرة الكثير جدًا من أجل حقوق الأقليات". وفي الحقيقة لا أحد يستطيع إنكار أنَّ حكومة حزب العدالة والتنمية المحافظة قد تقرَّبت من المواطنين غير المسلمين: فهكذا بات بإمكانهم الآن استرداد ممتلكات الأوقاف، التي تمت مصادرتها في الماضي من دون تعويضات.
وعلى أية حال من الممكن للمسيحيين في المناسبات الخاصة إقامة القدَّاسات والصلوات في الأماكن ذات الدلالة الرمزية مثل كنيسة الصليب المقدَّس في جنوب شرق تركيا. وكذلك يوجد بعض التقدّم في النزاع المستمر حول أراضي دير مار كبرئيل للسريان الأرثوذكس.
ولكن بصرف النظر عن ذلك فإنَّ مشكلة الأقليات الحقيقية في تركيا لا تكمن فقط في اللوائح والتعليمات التقليدية مثل ذكر الدين بهدف التمييز في بطاقة الهوية الشخصية التركية أو منع الكنائس والطوائف من شراء الأراضي وبناء الكنائس أو تخريج أجيال ناشئة من رجال الدين الروحيين، بل إنَّ المشكلة الحقيقية تكمن في عقول الناس، الذين يعيشون منذ واحد وتسعين عامًا في جمهورية، يُنظر فيها إلى كلِّ شخص غير سُنِّي -أي بصرف النظر عن كونه مسيحيًا أرثوذكسيًا أو كاثوليكيًا أو يهوديًا أو حتى علويًا- على أنَّه يشكِّل تهديدًا محتملاً لوحدة الدولة التركية.
غير المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية في مجتمع الأغلبية
"كثيرًا ما يتم اعتبار غير المسلمين في تركيا مواطنين غير حقيقيين بصورة مطْلقة"، مثلما تقول أروس يومول، خبيرة علم الاجتماع الأرمنية التركية في جامعة بيلغي التركية (الخاصة) في اسطنبول. وهي تعرف أنَّه: "في هذا البلد لا يزال وجود شخص أرمني في الأسرة يبدو مثل جريمة. ولذلك فإنَّ وصف شخص ما بأنَّه أرمني يُعَدّ إهانة، يصل بسببها أشخاص إلى المحكمة وتتم معاقبتهم".
وهذه الثقافة هي التي لا يمكن القضاء عليها من خلال تعديلات القوانين واللوائح الحكومية. وبالتأكيد ليس فقط من خلال زيارة قام بها زائر جاء من روما -حتى وإن كان جديرًا بهذا القدر من التبجيل والاحترام. ولهذا السبب فقد كان من المناسب أن نتوقَّع من البابا فرانسيس أكثر من بعض كلمات التنبيه.
وكذلك بقدر ما أظهر هذا البابا نفسه بصورة ثورية منذ تنصيبه، فهو لا يعتبر في النهاية متظاهرًا احتجاجيًا في منتزه غيزي باسطنبول، بل رجلاً من رجال الكنيسة. وهكذا فليس من المستغرب إطلاقًا أن يكون في النهاية الشيء الأكثر إثارة للاهتمام في زيارته بالنسبة للكثيرين من الأتراك تلك السيَّارة الصغيرة، التي تنقَّل فيها، وليس بالضرورة الكلمات التي قالها.
لويزه زامان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: http://ar.qantara.de