عندما تقرر الديكتاتورية ماهية الفن ـ النازية مثالا
٢٠ يونيو ٢٠١٢قبل خمسة وسبعين عاماً أعلن الديكتاتور النازي أدولف هتلر المعركة على الفن الحديث. في القاعة الكبرى في بيت الفن "كونست هاوس" في مدينة ميونخ وقف الفوهرر آنذاك مهدداُ الفن بالتطهير، غير أنه حدد للفنانين منهجية الفن، وبالتالي أطلق على ما كان يرتئي هو أنه "الفن الصحيح" مصطلح "الفن الألماني"، آخذاً بعين الاعتبار مصلحته السياسية في حربه الاستقصائية ضد كل ما لا ينتمي إلى العرق الآري. في بيت الفن الألماني في ميونخ كانت لوحة تصور الزعيم النازي والصليب المعكوف تتصدر القاعة الكبرى. اليوم جاء الفنان السويسري كريستيان فيليب مولر وعرض تحديداً في المكان نفسه لوحة ظهر عليها جسد إمرأة شابة عارضة للأزياء.
اللوحة هذه ذات الألوان الناضجة والتي تظهر خفة في التشكيل هي مجرد دلالة على استعادة الفن لحرية التعبير، غير أنها دلالة على التغيير الذي طرأ على تاريخ بيت الفن في ميونخ أيضاً، حيث استخدمته القوات الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مركزاً لها وأقامت الحفلات فيه، حتى أنها حولت قاعة المعارض الكبرى إلى ملعب لكرة السلة. و في خمسينات القرن المنصرم بدء البيت في إقامة عروض الأزياء إلى أن استعاد صفته كبيت للفن يُعرض فيه لوحات تنتمي لجميع المدارس الفنية.
ما يُقرأ بين السطور
كان الفن التجريدي مصدر خوف على الديكتاتوريات، لأنه، حسب رؤية الأنظمة السياسية التي لا تتوافق مع حرية التعبير، يحمل في طياته تعابير نقدية ومناهضة للفكر القائم في المجتمع. و حكم النظام النازي على كل ما هو حديث بالمنحط وكان تداوله محظورا، وفي معرض، أطلق عليه "معرض الفن المنحط"في عام 1937، عرضت لوحات لعمالقة الفن الحديث في العالم، فنانون مثل بيكاسو، كاندينسكي، كليه، بيكمان، وغيرهم. ولكن وكما تشاء السخرية أن تكون، ومن باب الخطأ عُرض للفنان الألماني رودولف بيلّينغ تمثال الملاكم الألماني ماكس شميلينغ في معرض "الفن الألماني" وعملين آخرين تجريديين في معرض "الفن المنحط" أيضاً، وما أن أدرك القائمون على المعرض خطأهم حتى استُبعد العملين من معرض الفن المنحط دون ضجيج.
وحسب فهم أية ديكتاتورية في العالم فأن الفن يجب أن يكون واضحاً وبسيطا ولا يحتاج إلى تفكير في فك ما يريد أن يعبر عنه الفنان ومقبولا من قبل الجماهير، عدا عن أنه عنصر مشجع لبناء هيكلية المجتمع كما كان يُعتقد. لكنه في الحقيقة كان الفن مجرد سلعة تعكس رؤية الحاكم. لذلك افتتح هتلر عام 1937 بنفسه بيت الفن الألماني كما كان يُسمى آنذاك، و دعا إلى أن يكون الفن في خدمة اديولوجية الحزب الاشتراكي القومي العمالي الألماني، كما يصرح الفنان كريستيان فيليب مولر الذي كُلف لتقديم المشورة لبيت الفن في كيفية معالجة تاريخه مع النازية: ويقول "أنها مهمة صعبة للغاية."
الديمقراطية والفن
في الأنظمة الديمقراطية لا توجد رقابة على الفن وليس هناك أي احتكار للفن لصالح سياسة ما، هذا ما نعرفه على الأقل في أوروبا الغربية، والسؤال الذي نطرحه: هل يستعيد الفن أمجاده في الدول التي ساد فيها نظام مستبد؟ التجربة الإنسانية عبر التاريخ ترد على هذا السؤال بطبيعة الحال. لقد استعاد الفن مركزه في ألمانيا كما استعاد المجتمع حرية التعبير. وقد تم اليوم عرض اللوحات التي كانت محظورة في الحقبة النازية داخل القاعة الكبرى التي افتتحها هتلر، أما لوحات ما سميّ آنذاك بـ "الفن الألماني" فهي مكبلة بالحديد وتبدو مثل الأسوار العملاقة. و هي لوحات غريبة وتبدو خارجة عن زمننا هذا، مثل اللوحة التي تصور مدينة فرنسية مهدمة جراء الحرب الألمانية على فرنسا، أو لوحة أخرى يظهر عليها وعل في غابة ألمانية، أو صورة لغواصة ألمانية تُبحر في الأطلسي.
حوار بين الماضي والحاضر
لقد أُعجب الفوهرر بتصميم بيت الفن الألماني كثيراً وأثنى على المهندس المعماري الذي صمم العمل الجميل، ورداً على ثنائه هذا قدم له هيرمان غورينغ، رئيس وزراء هتلر، بمناسبة عيد ميلاده الخمسين مجسما للبيت من الذهب الخالص. واليوم وبمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين على تأسيس بيت الفن أعطى الفنان السويسري كريستيان فيليب مولر مهمة صنع مجسم للبيت من الشوكولاته البيضاء بزنة مئة وستين كيلوغراما. وأراد بذلك، إن جاز التعبير، الإشارة إلى قوة المغريات التي قدمتها الاديولوجية الهتلرية للجماهير.
"لقد بدء القائمون على بيت الفن بمناقشة ودراسة ماضيه علمياً منذ بداية تسعينات القرن الماضي". كما تصرح زبينه براند بذلك، و التي تشرف على المعرض الحالي كخبيرة بعلم التاريخ. وتضيف "بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تكن هناك قدرة على مناقشة الحقبة النازية، كان الناس تواقون للعودة إلى الحياة الطبيعية وترك الماضي المرير خلفهم". وتضيف براند: "كان الناس غير مستعدين للنقاش فيما يتعلق بهذه الاديولوجية التي لاقت رواجاً عند الكثير منهم وبذلك حاولوا كبت هذه الحقبة. عدا عن أن المجتمع كله كان مشغولاً بالمعجزة الاقتصادية التي بدأت في ألمانيا وترك الماضي في غابة النسيان."
"ليس هناك حاضر دون أن يكون له ماضي " يقول النيجيري الأصل إنويزور الذي يدير منذ 2011 بيت الفن في ميونخ. ويضيف: "لا نستطيع فصل الماضي عن الحاضر." و يتابع: "من واجبنا أن ننظر إلى الحاضر من الناحية التاريخية لأن هذا الحاضر هو جزء من هذا الماضي."
وبهذا الصدد ينظم بيت الفن في ميونخ في هذه الأيام معرضين متوازيين، الأول يعرض لوحات الماضي والآخر لوحات الحاضر حتى يكون هناك حوار متواصل بين الحقبتين.
بريجيت غورتس / فؤاد آل عواد
مراجعة: حسن ع. حسين