قوانين لتكريس الصراعات الطائفية
٧ نوفمبر ٢٠١٣الفرق بين نوعي المنافسات (الطائفية والرياضية) هو أن الصراعات الطائفية والأثنية تتفشى في المجتمعات المتخلفة وتأخذ أشكالاً دموية، بينما المنافسات الرياضية تنتشر في المجتمعات المتقدمة وتأخذ أشكالاً حضارية، الغرض منها تفريغ الشحنات والطاقات لدى الشباب بأسلوب سلمي حضاري نافع.
في كتابه الموسوم (مهزلة العقل البشري)، خصص العلامة علي الوردي فصلاً كاملاُ عن (أنواع التنازع وأسبابه)، إذ قال: "والظاهر أن الإنسان مجبول على التنازع في صميم تكوينه فإذا قلَّ التنازع الفعلي في محيطه لجأ إلى اصطناع تنازع وهمي ليروِّح عن نفسه". وهذا بالضبط ما يفعله بعض السياسيين في العراق، رغم أن العراق لا تنقصه منازعات لكي يلجأ سياسيوها إلى اصطناعها، فهي كثيرة والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
بيّن الوردي أن التنازع بين البشر مسألة غريزية وتتخذ أشكالاً مختلفة حسب تطور المجتمعات. ففي المجتمعات البدائية يتخذ التنازع شكل الصراعات الدموية، القتل والإيذاء، ولكنه يتحول تدريجياً إلى أقل عنفاً، مثلاً إلى التحايل والسرقات..الخ. وفي المجتمعات الراقية يتخذ شكل حملات انتخابية، ودعايات ترويجية للشركات، ومباريات رياضية...الخ.
أما في العراق، وبسبب الردة الحضارية التي أصيب بها المجتمع خلال حكم البعث الفاشي لخمسة وثلاثين عاماً، فقد عاد القهقرى إلى القبلية وإحياء الصراعات الطائفية والأثينة الدموية، ومحاربة المنافسات الرياضية السلمية، لذلك لاحظنا هجوم السيد مقتدى الصدر، وشيوخ الوهابية على الرياضة وبالأخص على سباقات كرة القدم.
مناسبة هذه المقدمة هي ما نشرت وسائل الإعلام عن مشروع (قانون الأحوال الشخصية والقضاء الجعفري)، كمحاولة للإلتفاف على قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، وخلق المزيد من الصراعات الطائفية.
نبذة تاريخية عن قانون الأحوال الشخصية
غني عن القول أن من أهم عوامل الوحدة الوطنية هو توحيد القوانين ومعاملة أبناء الشعب كمواطنين من الدرجة الأولى في دولة المواطنة وحكم القانون، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية (الأثنية)، والدينية والمذهبية. ولذلك، بعد ثورة 14 تموز 1958، فكرت قيادة الثورة بسن قانون للأحوال الشخصية يلائم ظروف العصر وتكوينات الشعب العراقي، فقامت بتشكيل لجنة من المختصين بالقوانين لكتابة هكذا قانون، وتم إصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، الذي رد الاعتبار للمرأة.
وحسب ما أقر معظم علماء الاجتماع والحقوقيين أن هذا القانون كان من أحسن ما شرع من قوانين للتخلص من تعقيدات الأحوال الشخصية، يلائم الشعب العراقي المتعدد الأعراق والأديان والطوائف والمرحلة التاريخية.
ولكن لا بد لكل جديد أن يواجه معارضة من قبل شريحة من المجتمع وخاصة من قبل رجال الدين، وهذا ما حصل لهذا القانون وبالأخص من قبل رجال الدين الشيعة، وفي مقدمتهم المرجع الديني السيد محسن الحكيم، فاعتبروه خروجاً على الإسلام!. لذلك وبعد نجاح انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، الطلب الوحيد الذي قدمه السيد الحكيم لحكومة الانقلابيين هو إلغاء هذا القانون. ولم يتجرأ الإنقلابيون إلغائه، فأجروا عليه بعض التعديلات ضد حقوق ال المرأة إرضاءً لرجال الدين الذين مهدوا بفتاواهم لهذا الانقلاب الدموي الذي أدخل العراق في نفق مظلم لم يخرج منه حتى الآن. ولكن بعد مجيء البعث الثاني للسلطة عام 1968 أجروا عليه بعض التعديلات الإيجابية في صالح المرأة، ولم يستطع رجال الدين الاعتراض عليهم.
"قرار عبد العزيز الحكيم كان نكسة"
وبعد إسقاط حكم البعث الفاشي عام 2003، وتشكيل مجلس الحكم، وجعل رئاسته دورية شهرية، وجاء دور المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم (نجل السيد محسن الحكيم) لرئاسة مجلس الحكم عام 2004، وأول عمل قام به هو إصدار قرار رقم 137 يوم 1/1/2004، ألغى بموجه (قانون الأحوال الشخصية).
وقد أحدث ذاك القرار سيء الصيت رد فعل عنيف لدى الشعب وأوساط السياسيين والكتاب التقدميين، مما اضطر تدخل بول بريمر، رئيس الإدارة المدنية لقوات التحالف، فألغى مشكوراً القرار 137.
ويبدو أن الجماعات الإسلامية، وخاصة الشيعية منها، لم يقر لهم قرار، وصار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 شغلهم الشاغل، وكأن العراق أنتهى من كل مشاكله فلم يبق لديهم سوى هذا القانون للتخلص منه، فعادوا من جديد وخرجوا علينا بلعبة (قانون الأحوال الشخصية والقضاء الجعفري).
ما هي الحكمة من قانون لكل طائفة؟
ذكرنا أعلاه أن أهم عامل للوحدة الوطنية هو وحدة القوانين، ولكن يبدو أن الجماعة مصرون على تعددية القوانين وبأسماء طائفية مثيرة لتحقيق غرضهم الأساسي وهو تمزيق ما تبقى من الوحدة الوطنية. يقول النائب السيد حسين سلمان المرعبي في دفاعه عن القانون الطائفي: "ان نقطة القوة التي يجب ان نركز عليها في الترويج الى مشروع القضاء والأحوال الشخصية الشيعي هي ان القانون الجديد لا يلغي القانون السابق".
في الحقيقة، هذه نقطة ضعف وليست نقطة قوة في القانون الجديد، إذ يعني أن القانون السابق، أي قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، مازال صالحاً ويؤدي الغرض ويناسب أتباع جميع الطوائف والأديان، إذ كما قال عنه الخبير القانوني السيد طارق حرب في هذا الخصوص أن "القانون الحالي سليم الى حد ما، وأخذ تشريعاته من مذاهب إسلامية عدة، فبعضها استند الى المذهب الحنفي وأخرى الى الجعفري وغيرها أخذت من المذهب الظاهري ولم يقتصر القانون على مدرسة إسلامية واحدة".
ولتبرير القانون الجديد، يستشهد السيد النائب حسين سلمان المرعبي بالمادة (41) من الدستور حيث نصت على:"العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون".
في الحقيقة هذا الخيار موجود في القانون السابق، فمنذ العهد الملكي وإلى الآن هناك قضاة شرع حسب ديانات وطوائف المواطنين للنظر في قضايا الزواج والطلاق والإرث وغيرها. ألا يعني هذا أن الغرض من سن قانون باسم طائفة معينة هو العزف على الوتر الطائفي والإمعان في تمزيق الوحدة الوطنية الممزقة أصلاً؟
"لا تقسروا أولادكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"
أما الشروط التي فرضها الإسلام، واستشهد بها السيد المرعبي، مثل تحريم تعدد الزوجات والزواج بالإكراه، وتجريم النهوة العشائرية ...الخ، فهذه الشروط لا يحترمها أحد، لا في العراق ولا في أي بلد إسلامي. فالقرآن كما وصفه الإمام علي، (حمال أوجه)، كل رجل دين يستطيع أن يفسره كما يشاء، ويلقى فيه ما يشاء. وكذلك في الدستور العراقي هناك مواد كثيرة قابلة للتأويل. لذلك نطالب المخلصين من السياسيين أن في مثل هذه الأوضاع العاصفة التي يمر بها العراق الآن، أن يتجنبوا إثارة أية قضية من شأنها تكريس التفرقة وخلق المزيد منها.
فإصدار قانون الأحوال الشخصية والقضاء الجعفري، يعني أن يطالب أتباع الديانات والمذاهب الأخرى بإصدار قوانين خاصة بمذاهبهم وحسب متطلباتهم الدينية والطائفية، وهذا يعني تكريس الصراعات الطائفية وتمزيق الوحدة الوطنية. فالعراق اليوم بأمس الحاجة إلى دولة المواطنة التي وظيفتها الأساسية سن قوانين لإدارة شؤون المواطنين الدنيوية. أما مشاكلهم ما بعد الموت فأمرها بأيدي رجال الدين، وكل حسب دينه ومذهبه. أما أن تتدخل الدولة وتفرض على المواطنين قوانين دينية تم تشريعها لحل مشاكل مجتمع بدوي قبل 1400 سنة فهي عملية انتحارية لأنها ضد قوانين التطور.
هناك قول مأثور للإمام علي قلما يذكره الإسلاميون وهو: (لا تقسروا أولادكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم). وهذا دليل على أن الإمام كان مدركاً للتغيير ومتطلبات المستقبل.
كما ويخبرنا التاريخ أن الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، أجرى أكثر من أربعين تعديلاً على الشريعة الإسلامية خلال عشر سنوات من وفاة الرسول (ص). ورغم القول أن (لا اجتهاد في النص) إلا إن عمر قد اجتهد في النص القرآني مثل الغائه زواج المتعة، وحصة المؤلفة قلوبهم من الغنائم وغيرها كثير. ونحن إذ نسأل: إذا كان عمر شعر بالحاجة الماسة إلى التغيير والتعديل بعد عشر سنوات فقط من وفاة الرسول، فكم من الأمور الأخرى التي سيقدم على تغييرها إذا ما جاء اليوم وبعد ما يقارب 14 قرناً من الزمان؟
"الإيمان والتدين والالتزام بالشريعة أمر شخصي لا يصحللدولة المحاولة لإرغام المواطنين عليه"
وأخيراً، من الإنصاف هنا أن نذكر أنه ليس رجال الدين الشيعة الذين طالبوا بسن قانون الأحوال الشخصية والقضاء الجعفري، فهذه الفذلكة من "إبداعات" بعض السياسيين الشيعة المستفيدين من تكريس الصراعات الطائفية، لا حباً بأبناء طائفتهم، بل لضمان بقائهم في مناصبهم. وأفضل دليل على ذلك هو ما صرح به المرجع الديني الشيعي المعروف آية الله السيد حسين إسماعيل الصدر حيث طالب الدولة بعدم "إرغام" المواطنين على "الإيمانوالالتزام بالشريعة"، مؤكدا ان هذا سـ"يخلصنا من الطائفية". وقال الصدر ردا علىسؤال من احد اتباعه بشأن طرح مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفرية من قبل بعضالأحزاب للتصويت عليه، إن "الإيمان والتدين والالتزام بالشريعة أمر شخصي لا يصحللدولة المحاولة لإرغام المواطنين عليه". وأضاف الصدر أن "الأفضل أن تكتفي الدولةبتشريع قوانين مدنية عامة متوافقة مع الاتفاقيات الدولية ولا تخالف الشريعةالإسلامية في نفس الوقت، وتدع المسائل الشرعية لأهلها، ليتاح لكل من المؤمنينالرجوع إلى من يقلده في أعماله الشرعية"، مؤكدا أن "هذه الطريقة ستخلصنا من التنافسالطائفي وستضمن مصالح أتباع الأديان والمذاهب المختلفة في البلدجميعا".