كنيسة السيدة العذراء بدريسدن: من رمز للحرب إلى أيقونة للسلام
احتضنت مدينة دريسدن احتفالا كبيرا يوم أمس الأحد شارك فيه مئات الآلاف بمناسبة إعادة افتتاح كنيسة السيدة العذراء، وهي الكنيسة التي بقيت أنقاضها ماثلة زهاء خمسة عقود أمام الشعب الألماني لتذكره وسائر زوار المدينة بآثار الحرب السلبية والدمار الذي سببته. وبعد أكثر من أحد عشر عاماً على أعمال إعادة البناء، افتتح أمس مبنى الكنيسة وشاركت في الاحتفال 1700 شخصية بارزة، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين تابعوا وقائع الاحتفال على الشاشات العملاقة التي نصبت في الشوارع وفي ساحات المدينة. وعبر كل من رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية هورست كولر وأسقف ساكسونيا يوخن بول عن تفاؤلهما بأن يشكل إعادة بناء هذا الصرح الديني رمزا للتفاؤل والمصالحة. وفتحت الكنيسة أبوابها حتى فجر اليوم الاثنين، لتتيح الفرصة للآلاف ممن اصطفوا أمام أبوابها بمشاهدتها من الداخل.
تدمير كنيسة السيدة العذراء
في عام 1743 تم تشييد كنيسة السيدة العذراء، بعد خمسة أعوام من وفاة مصممها جورج بيرز. وتميزت هذه الكنيسة بقبتها الحجرية المقعرة، التي تشبه الجرس في شكلها، لذلك أطلق عليها اسم "الجرس الحجري". وقد كانت هذه الكنيسة بقبتها المميزة إحدى أشهر كنائس العالم. كما تميزت أيضاً بتصميم سمعي لتوزيع الأصوات لا مثيل له، تحمس له الموسيقار الكبير يوهان سيباستيان باخ بعد أن عزف فيها، فتحولت إلى مركز للحفلات الموسيقية. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، في 15 فبراير/شباط عام 1945، شن الحلفاء غارات جوية على مدينة درسدن وأحرقوا مركزها. بعدها بيومين انهار بنيان الكنيسة بفعل النيران، وظلت الكنيسة على حالها طيلة فترة تقسيم ألمانيا. لم يكن السبب الوحيد في ترك أنقاض الكنيسة هو قلة المال، ولكن بالأحرى قلة الرغبة السياسية في ترميمها. فقد تركت الأنقاض تذكاراً للدمار الذي تحدثه الحروب، ولتمثل معاناة الشعب بسبب الحرب العالمية الثانية.
انطلاق "نداء درسدن"
وفي 13 فبراير 1990، بعد 45 عام من تدمير المدينة، اشترك القس كارل لودفج هوخ مع العازف لودفج جوتلر في كتابة خطاب، يدعون فيه لإعادة بناء الكنيسة، وبدأوا حركة سميت "نداء درسدن" شارك فيها العديد من أبناء المدينة. ولم يوجهوا نداءهم لسكان درسدن فقط، لكن إلى كل من يرغب في السلام، خاصة من الحلفاء الذين شاركوا في تدمير المدينة، ليتحول هذا الرمز الذي ترك ليعبر عن مآسي الحروب إلى بيت للسلام والمصالحة. وبالفعل سمع نداؤهم، فقد تبرع أكثر من نصف مليون شخص من كل أنحاء العالم من أجل كنيسة درسدن، وانتشرت الجمعيات التي تشجع هذا المشروع في فرنسا وسويسرا وبريطانيا، كما شارك الطبيب الأمريكي من أصل ألماني جونتر بلوبل والحائز على جائزة نوبل بجزء كبير من جائزته المالية لبناء جمعية "أصدقاء درسدن"، وجاءت التبرعات أيضاً من الدانمرك والنمسا وهولندا والبرازيل، وحتى من ضحايا النازية، ووصلت التبرعات إلى 100 مليون يورو، لتساهم بأكثر من نصف تكلفة إعادة البناء التي وصلت إلى 180 مليون يورو. وبدأ مشروع إعادة البناء عام 1992 وتم استخراج نحو 7000 حجر قديم من ركام الكنيسة، وعن طريق برنامج دقيق على الحاسب الآلي، أعيد استخدامها بنفس الطريقة القديمة وباستخدام التقنيات الحديثة، تم بناء الكنيسة من جديد حسب تصميم المهندس جورج بيرز.
إعادة البناء رمز للمصالحة
وأشار أسقف ساكسونيا يوخن باول في موعظته إلى اقتناعه بأن تشييد هذه الكنيسة يعد خطوة للمصالحة، فقد شاركت بريطانيا في هذا التشييد ودعمته، بعد أن تسببت في تدميره أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو أكبر دليل على أن المصالحة والسلام أمر ممكن، إذا ما كانت هناك خطوات إيجابية لإصلاح الظلم الواقع وترميم آثار العنف والعدوان، حيث قال: "كنيسة السيدة العذراء هدية من الله، صنعها الناس بعضهم لبعض. حيث تعدوا حدود الأوطان والمذاهب واتحدوا ليقوموا بمهمة بناء الكنيسة، ويبنوا بذلك جسور بين الدول معبرين عن الأمل في مستقبل أفضل". كما عبر الرئيس الألماني كولر عن تفاؤله قائلاً أن هذه الكنيسة قد جمعت الألمان حول مشروع واحد. فالتبرعات التي استخدمت في إعادة البناء قد شارك فيها المواطنين من كافة أنحاء ألمانيا بنفس القدر، لذا أشاد الرئيس الألماني بالمواطنين الذين أطلقوا فكرة إعادة البناء وبقوة إرادتهم قائلاً: "لقد أوضح عام 89 وخاصة لنا نحن الألمان أن الإنسان يحتاج إلى الحرية كحاجته إلى الهواء للتنفس وفي الوقت نفسه، فإن الحرية تتنافى مع الأنانية وحب الذات وتحقق ذاتها مع الآخر، وهذه المسئولية المشتركة بحرية هي التي تولد الرابط القوي والوحدة وهذا هو ما يجعل الإنسان يصبو إلى أهداف سامية وأن يغير العالم من حوله إلى عالم خير." وأشاد كولر أيضاً بالمبادرات الشخصية والتبرعات التي لا تحصى والتي تم بفضلها إعادة إعمار الكنيسة.
اعتذار عملي
واليوم يرتفع صليب صنع في بريطانيا فوق قبة الكنيسة، جاء هذا الصليب الذي يبلغ سبعة أمتار هدية من بريطانيا، التي دمرت بطائراتها الحربية الكنيسة في الماضي، لترمز بذلك للتصالح بين الشعبين. وقد صنع هذا الصليب الضخم الحداد آلان سميث. وآلان سميث هو نجل أحد الطيارين الذين جلبوا الموت والدمار لمدينة درسدن، وقد صنع الصليب على مثال الصليب الذي تدمر، محاولة منه أن يشارك في إعادة بناء الكنيسة. فقد بحث الحداد الشاب ووجد في هذه الهدية نوعاً من الاعتذار للألمان عن الدمار الذي شارك فيه والده. كذلك لم تتغيب العائلة المالكة البريطانية عن مراسم الاحتفال، فقد حضر دوق كنت إلى درسدن وكان قد حصل على وسام الدولة الفخري من الرئيس الألماني تقديراً لجهوده في إعادة بناء الكنيسة. وبإعادة بنائها تحولت كنيسة السيدة العذراء، التي ظلت لأعوام طويلة رمزاً لدمار الحرب العالمية الثانية إلى رمز للمصالحة بين الشعبين الألماني والإنجليزي.