هواة سياسة حافة الهاوية يضعون الشرق الأوسط على كف عفريت
٢٠ ديسمبر ٢٠١٧لم تكن منطقة الخليج ومحيطها الشرق أوسطي تنتظر من مساجد العاصمة السعودية الرياض إطلاق تهليلاتها "لا إله إلا الله" عندما دوى انفجار في المدينة عقب إسقاط منظومة الدفاع السعودية لصاروخ باليستي من اليمن، حتى يدرك المتتبعون لتطورات الأوضاع بالمنطقة بأن "حربا مقدسة" تأخذ مداها بين السعودية كقطب للعالم السني وإيران مركز النفوذ الشيعي، وأن فصولها الأكثر إثارة قد تكون أقرب مما يتصور.
فاذا كانت هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق سوريا، هي من أبرز ما تحقق في منطقة الشرق الأوسط عام 2017 ، فان هذا العام وهو يودع ويطوي صفحة حرب دامية مع عدو غير تقليدي، يفتح فيما يبدو أبواب الجحيم في العام الجديد 2018 لصراعات وربما حروب جديدة في المنطقة التي تعتبر من أكبر مناطق العالم نزاعات مسلحة.
إن هزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا والفصول المطوية لحد الآن من "الحرب الأهلية" في سوريا، وما تشهده حرب اليمن من تفاعلات جديدة، تُظهر بعض النتائج من الصراعات المتعددة الجبهات في المنطقة، والتي يطلق عليها عدد من المحللين "صراعات بالوكالة" سواء إقليميا لحساب قوى كإيران والسعودية أو دوليا لحساب القوتين العظميين أمريكا وروسيا. كما تضيف الصراعات الإقليمية والعالمية في المنطقة تعقيدات إضافية على الصراعات الداخلية المفتوحة في عدد البلدان العربية، مثل العراق والصراع بين الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان الطامح إلى الاستقلال، أو ليبيا الغارقة في الفوضى والصراع بين سلطتي حكومة طرابلس المعترف بها من المجتمع الدولي وحكومة طبرق المدعومة من قبل قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
موقف دفاعي
بالنسبة للقيادة السعودية وحليفتها إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، فقد"حان الأوان لمواجهة الخطر الإيراني" هكذا علقت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي على إطلاق الحوثيين صاروخا باليستيا على العاصمة الرياض، وهي ترى "بصمات إيرانية واضحة المعالم "في هذه العملية العسكرية الاستعراضية، التي تأتي بعد مرور أيام معدودة على مصرع الرئيس السابق علي عبد الله صالح بأيدي ميليشيات الحوثي في العاصمة صنعاء.
ومن يقرأ وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي أعلن عنها حديثا الرئيس ترامب، يستنتج، كما يقول في حوار لـ DW عربية الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات، والذي يعمل مستشارا لدى حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بأن إيران باتت على رأس أهداف إدارة ترامب في الفترة المقبلة، وهو ما يتطابق مع توجهات الرياض وحليفاتها في المنطقة ومنها على وجه الخصوص دولة الإمارات العربية المتحدة.
القيادة السعودية باتت تشعر أكثر من أي وقت مضى بأن الخناق الإيراني يضيق عليها بدءا من الجارة اليمن ثم في الجوار الخليجي والعراق، وصولا إلى سوريا ولبنان. وأن يهاجم الحوثيون بصواريخ باليستية العاصمة الرياض للمرة الثانية في وقت وجيز، فذلك يضع ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان تحت ضغط متزايد.
فالأمير الجامح والساعي حثيثا نحو العرش السعودي، وباعتباره مهندس حرب اليمن، بات في حرج كبير، ناهيك عن أن العواصم الغربية الحليفة والمنظمات الإنسانية الدولية تكثف ضغوطها عليه من أجل فك الحصار على اليمن وإيقاف الحرب الباهظة الثمن والكارثية إنسانيا وماديا، فهو يبدو قليل الخيارات في مواجهة التحدي الحوثي - الإيراني.
حرب اليمن تكبح الفرس الجامح
بعد استخدامه ورقة الضغط اللبنانية عبر دفع رئيس الوزراء سعد الحريري وفي ظروف ملتبسة إلى الاستقالة، في محاولة للجم التحرك الايراني وخصوصا ذراعه الطويلة حزب الله اللبناني، تبدو الخيارات ضيقة بأيدي صاحب القرار السعودي، وهي في كل الأحوال تفتقد إمكانية حسم تام للمعركة لصالح الرياض، طالما أن قوات التحالف العربي بقيادة السعودية تركز عملياتها على الجو، بينما يتطلب هزم ميليشيات الحوثي عمليات برية واسعة النطاق، لا يبدو أن القوات الموالية للرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي قادرة على تنفيذها، كما أن السعودية لا تمتلك جيشا قادرا على غزو بلد معقد التضاريس مثل اليمن، كما يقول نبيل خوري وهو سفير أميركي سابق في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وكبير الباحثين حول الشرق الأوسط في مجلس شيكاغو للشؤون الدولية. وهو يعتقد أن هنالك مبالغة في النظر لمقومات السعودية كقوة إقليمية وخصوصا بالمقارنة مع إيران، وهذا ما يؤدي إلى سوء تقدير في النتائج المتوقعة للأدوار والمواجهات المفتوحة التي تخوضها على جبهات متعددة في المنطقة، ولاسيما مع الغريم الإيراني.
لكن الخبير الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله يرى أن حسم الحرب في اليمن لجهة وقف النفوذ الإيراني، "أمر حيوي بالنسبة للقيادة السعودية وحليفاتها في المنطقة وعلى رأسها أبوظبي". اذا أن تصفية الرئيس السابق علي صالح وانفصام عرى التحالف بين الحوثيين وحزب المؤتمر الشعبي وفصائل القوات العسكرية الموالية للرئيس السابق، "يضع الحوثيين في عزلة سياسية، ويجعل إدارتهم للشأن اليمني أمرا مستعصيا أكثر"، ويضيف بأن تضييق الخناق عسكريا عبر محاور عديدة سيعجّل بتحرير ميناء مدينة الحديدة الاستراتيجي ويساهم في الحصار البحري لميليشيات الحوثي. بيد أن الخبير الإماراتي يعترف بأن تحرير العاصمة صنعاء وإلحاق هزيمة تامة بالحوثيين قد يكون أمرا "غير واقعي"، ولذلك فاذا تحققت أهداف الحصار البري والبحري في ظل استمرار العمليات الجوية بحلول أو مع موفّى شهر مارس/ آذار المقبل، فسيكون التوصل إلى "تسوية سياسية مع الحوثيين أمرا ممكنا" بحسب توقعات الدكتور عبد الخالق.
"العدو الإيراني المشترك"
وتتفاوت نظرة الخبراء إلى أهمية حرب اليمن كقطعة محورية في رقعة الشطرنج الإقليمية، فبينما يرى الديبلوماسي الأمريكي السابق نبيل خوري، أن هذه الحرب معركة سعودية بالأساس مع طرف يمني، وأن نطاقها محدود نسبيا. يذهب الخبير الإماراتي عبد الخالق إلى توقع حدوث تطورات "خطيرة" وأوسع نطاق من دائرة اليمن، في الصراع الإقليمي بين إيران وخصومها الخليجيين. "اذا كانت احتمالات نشوب مواجهة عسكرية سنة 2017 في حدود 20 في المائة، فهي ستتضاعف خلال سنة 2018 إلى 40 في المائة" يتوقع الدكتور عبد الخالق، ويضيف بأن شكل المواجهة المحتملة يمكن أن تكون في المجال البحري أو مجالات أخرى...
وبالنسبة لإيران التي ترى بأنها تخرج منتصرة من حروب سوريا والعراق وأزمات لبنان، لا يبدو أنها ستقبل بدور محتشم في القضايا الإقليمية الكبيرة مثل ترتيبات ما بعد الحرب السورية والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو ما يجعل القلق من دورها ليس شأنا خليجيا عربيا فقط، بل أيضا مصدر انزعاج لإسرائيل. ومن هنا تلوح من حين لآخر بوادر تقارب سعودي إسرائيلي في مواجهة "العدو الإيراني المشترك".
لكن الرؤية لمدى الالتقاء حول هذا الهدف ما تزال متباعدة بين القيادتين السعودية والاسرائيلية، والحديث الإعلامي عن تقارب ناهيك عن تحالف سعودي إسرائيلي ينطوي برأي الدكتور عبد الخالق على "مبالغة إعلامية مصدرها رغبات إسرائيلية".
وبدوره يقلل الجانب الإسرائيلي من حجم التوقعات في هذا الصدد، اذ صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قبل بضعة أشهر بأنه ليس من الوارد أن تذهب إسرائيل إلى حد "شن حرب بالوكالة عن السعودية ضد إيران". لكن القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لا يخفون انزعاجهم من التمدد الإيراني في الجارة سوريا وكيف يشكل ذلك خطرا استراتيجيا مضاعفا على إسرائيل يضاف إلى "خطر حزب الله اللبناني".
وينظر خبراء إلى الضربات الجوية التي تنفذها إسرائيل من حين لآخر ضد أهداف عسكرية في سوريا، كمؤشر على نوعية التحرك الإسرائيلي في مواجهة النفوذ الإيراني، ولا يستبعدون نشوب مواجهات "نوعية ومحدودة النطاق" في القريب المنظور ضد أهداف ومواقع عسكرية إيرانية في سوريا ولبنان.
رابحون وخاسرون
وتبدو إيران أهم لاعب إقليمي يخرج من عام 2017 بمكاسب استراتيجية في العراق وسوريا ولبنان، دون احتساب اليمن بحكم الطابع المفتوح للحرب فيها.
أما روسيا كقوة عظمى فهي أيضا من الرابحين في حصيلة عام 2017 من صراعات الشرق الأوسط. ويتوقع الخبراء أن يستمر التحالف الإيراني الروسي وأن يسعى لتوسيع دائرته عبر ضم "تركيا المضطربة بسبب تقلبات سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان والمقايضات التي تتم معه في الشأن السوري على خلفية الملف الكردي، كما يقول الدكتور عبد الخالق، وهي مقايضات قد تقود أردوغان حتى إلى الجلوس مع الرئيس بشار الأسد "الرابح المؤقت" من الصراع السوري.
فتركيا العضو في حلف الناتو تشهد علاقاتها مع الحلفاء الغربيين اضطرابا ملحوظا، وتتعرض علاقاتها مع الدول العربية السنية ومن ضمنها حليفتها السابقة السعودية، إلى توتر يتعمق في ظل الدعم العسكري والسياسي الذي تبديه أنقرة لقطر في مواجهة شقيقاتها الخليجيات السعودية والامارات والبحرين زائد مصر.
وينظر الخبراء بحذر شديد للمزاج المتقلب لدى صانعي القرار في "الجبهة" الأمريكية السعودية. ويرون فيها بذور مخاطر مُحدقة وسياسات "غير محسوبة" العواقب على المنطقة.
فالخطوات التي يقدم عليها الرئيس ترامب تكشف في كل مرة" جهله بالأوضاع في المنطقة"، وآخرها قرار الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، التي تعتبر واحدة من أعقد وأقدم ملفات النزاع في المنطقة، كما يقول نبيل الخوري الذي عمل لفترة طويلة بالسلك الدبلوماسي في عواصم شرق أوسطية ومغاربية في ظل إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
وقياسا على ملف القدس ينتاب الخبراء في أوروبا وفي الولايات المتحدة- مثل الدكتور نبيل الخوري- الشعور بأن ما يُتداول بشأن "صفقة القرن" لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس سوى رغبة لدى بعض الأجنحة اليمينية المحافظة في إدارة ترامب. كما أعرب قادة فلسطينيون عن مخاوفهم من مخرجات هذه "الصفقة" وأن تكون -إذا تمت- على حساب حقوق الفلسطينيين وحل الدولتين.
كما أن طريقة إدارة الرئيس ترامب المضطربة للعلاقات مع العواصم الخليجية وتركيا، وتجازوه لحلفائه الأوروبيين في أكثر من ملف، أظهرت إلى أي حد يفتقد البيت الأبيض إلى نظرة متوازنة للأمور تكون في مستوى دور أمريكا كقوة أولى في العالم.
ويبدو الأسلوب المزاجي وسوء التقدير كعامل مشترك بين القيادتين الأمريكية والسعودية. فالأمير محمد بن سلمان، الذي أطلق وعودا إصلاحية أثارت اهتمام عدد من العواصم الغربية، خصوصا ما يتعلق منها بمكافحة التشدد الوهابي ونفوذه في مؤسسات النظام الاجتماعي والسياسي بالمملكة، وسعيه ضمن "رؤية 2030" إلى إرساء إصلاحات اقتصادية تهدف لتقليص اعتماد المملكة على النفط. هذه الوعود أضفت ملامح قيادة مستقبلية إصلاحية للسعودية، لكن الأمير الشاب أظهر جموحا واندفاعا ملحوظا في السياسة الخارجية، أدى في حالات لبنان واليمن وقطر إلى إحراج حلفاء السعودية في أوروبا والولايات المتحدة.
وتتباين في هذا الصدد آراء المحللين بين من يعتبر الأمير محمد بن سلمان حاكما واعدا بالإصلاحات الداخلية والدور الإقليمي القوي، وهو رأي الخبير الإماراتي عبد الخالق، وبين محذرين من خطورة "سياسة حافة الهاوية" التي ينتهجها ولي العهد السعودي، وهي سياسة تُخرج السعودية من نطاق دور القوة الناعمة الذي طالما لعبته في العلن ووراء الكواليس وكسبت بها صراعات مع خصوم لها أشدَّاء في المنطقة.
منصف السليمي