يوميات سورية: إيقاع الحياة مستمر رغم الدمار والحزن
٥ سبتمبر ٢٠١٢عام ونصف مر على بدء الثورة في سوريا...عام ونصف من المظاهرات والملاحقات والاعتقالات...عام ونصف من العنف والقصف والخطف والسلب...عام ونصف وأعداد المغادرين والنازحين واللاجئين في ازدياد...عام ونصف ودموع فراق الأقارب والأحباب والأصحاب لا تجف...كل هذا وعجلة الحياة لا تتوقف ولو لدقيقة أمام كل هذا الدمار والحزن. استمرارية الحياة، وإن بدت مجحفة بحق السوريين في لحظات اليأس، إلا أنها في أحيان كثيرة تعكس حب السوريين للحياة متى ما استطاعوا إليها سبيلا...
"الدنيا عيد وقررنا نطلع سيران – مشوار في اللهجة الشامية العامية- وكان المكان الأنسب هو سطح البيت، إذ لا حاجة لنا لمغادرة الحي الذي نقطنه ولا حتى البناية، ولا لتحمل مشقة عبور عشرات الحواجز،" تقول سهام الصبية العشرينية، التي لم يمض على زواجها أكثر من ستة أشهر: "ارتديت فستاناً أخضر من جهاز عرسي لم أرتده من قبل بسبب عدم وجود أي مناسبة من قبل لارتداءه، وألحيت على زوجي أن يرتدي قميصه الأزرق الذي أحب، وأخذنا معنا كرسيين قماش وطاولة وبعض الموالح والعصير إلى رحلتنا على السطح". وهنالك كانت المفاجأة، فسطح البناء كان يعج بالجيران الذين يبدو أن معظمهم وجد في الجلوس على السطح بين خزانات الماء والمازوت والصحون اللاقطة المكان الأنسب للـ" السيران". فرحة لقاء الجيران ومعايدتهم على سطح المنزل لم تكتمل! فبعد أقل من 10 دقائق بدأت أصوات المدفعية تعلو وماهي إلا دقائق قليلة حتى رافقها صوت مروحية تصول وتجول في سماء المدينة. تقول سهام" صحيح أن الأصوات ليست جديدة، وآذاننا ألفتها طوال الشهر الفضيل، إلا أن الخوف سرعان ما سرى بين الجارات، في حين لم يتوقف الاطفال عن اللعب والركض وهم يصرخون:طيارة...طيارة.... الرجال حسموا الموقف "سنبقى على السطح"، ثم ما لبثوا أن دخلوا في نقاش سياسي وعلت أصواتهم على أصوات المروحية، وهكذا أكملنا السيران!".
قصة سيران سهام على سطح بيتها في منطقة برزة عادت إلى ذاكرتي وأنا أتجول مع صديقتي في شوارع دمشق في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، حركة السيارات الخفيفة في الشارع تقابلها حركة نشطة جداً في الحدائق العامة وسط العاصمة والتي عجت بمئات العائلات وأطفالهم "معظمهم من النازحيين" قالت صديقتي ونحن على أبواب حديقة السبكي في منطقة الشعلان ولم أصدق أنا، فالأطفال في معظمهم كانوا فرحين يلعبون ويركبون المراجيح ويضحكون بصوت عال، في حين كان ذويهم يفترشون العشب بالقرب منهم. أحدهم كان يحمل هاتفاً خلوياً بسيطاً ويلتقط بعض الصور لأبنائه بسعادة واضحة!
دخلنا الحديقة بدون تردد، تجولنا فيها طولاً وعرضاً ولم نجد كرسياً واحداً فارغاً لنجلس عليه. ضحكات الأطفال وصخبهم الفرِح لم يكن ليعكره سوى أصوات القصف وهدير المروحيات التي أصبحت أشبه بمؤثر صوتي يرافق حياة المواطن السوري في نهاره قبل ليله. إحدى السيدات دعتنا لمشاركتها كرسيها، لهجتها لم تكن شامية وبعد دردشة قصيرة أخبرتنا أنها من قرية العميقة من أطراف حماة وأنها نزحت من زوجها وأولادها الأربعة إلى دمشق منذ نحو شهرين عند أقارب لعائلة زوجها في الميدان. إلا أنهم سرعان ما اضطروا مع مضيفيهم إلى النزوح إلى إحدى المدارس في منطقة برزة.
"جئنا جميعاً من المدرسة"، قالت السيدة الأربعينية وهي تشير بيدها إلى مجموعة كبيرة لا تقل عن عشر عائلات، وأردفت:" الدنيا عيد والجو خانق قلنا لأنفسنا ما المانع من نزهة لنا وللأطفال". وعندما سألتها عن الوضع في المدرسة قالت باقتضاب "كتر خير الله..أولاد الحلال ُكثر ولكن أعدادنا كبيرة".
السيدة الحموية أخبرتنا بسعادة أنها وقبل مغادرتها منزل مضيفيها في منطقة الميدان كانت قد حضرت حفل زفاف لأحد الجيران: "فرحت كثيراً أنا وبناتي أننا حضرنا حفل زفاف دمشقي، صحيح أنه بدء في الرابعة عصراً وانتهى قبيل أذان العشاء إلا أنه كان حفلاً جميلاً سأخبر عنه جيراني عند عودتنا إلى القرية أن شالله".
" معقول؟؟!!" تساءلت صديقتي بصوت خفيض متعجبة، كيف يستطيع هؤلاء السوريون النازحون من القرى المهدمة والهاربون من جحيم القصف والقادمون من مدارس تحولت مع مقاعدها الخشبية بين ليلة وضحاها إلى ملاجئ تضم المئات، أن يضحكوا ويحضروا حفلات زفاف ويأخذوا أطفالهم إلى الحدائق ليلعبوا؟! سؤال ربما لا يجد جواباً علمياً دقيقاً يفسره، في حين أنه إنسانياً قد لا يبدو السؤال منطقياً أصلاً، فاقتناص لحظة مرح بعيدا عن أعين القناص المتربصة لا يمكن أن يكون مستهجناً بحجة هول المأساة التي يعيشها السوريون اليوم. فمع كل قصص النزوح واللجوء والهجرة مازالت قصص الحب والزواج والولادات مستمرة، ربما تغيب أشكال الاحتفال بها مكتسبةً أشكالاً أخرى تتناسب مع تكرار انقطاع التيار الكهربائي وكثرة حوادث الخطف والسلب واستمرار أعمال العنف والقصف لتصبح مواعيد حفلات الزفاف في الرابعة عصراً عوضاً عن التاسعة مساء ولتغيب أهازيج العراضة الشامية عن معظم الحفلات وينخفض صوت الزغاريد ويقل عدد المدعويين لأقرب المقربين، ولكن تبقى فرحة العروسين صافية صادقة بلون الطرحة البيضا رغم كل الدماء التي تسيل.
تنادي السيدة الحموية ابنتها لتعرفنا عليها: " لينا في الصف الثالث إعدادي "، تقول السيدة بنوع من التباهي بابنتها البكر. أسالها هل ستذهبين للمدرسة هذا العام ؟ تحتار الصبية في الجواب، فتسارع الأم في الإجابة " إن شاء لله وحتى لو لم تذهب إلى المدرسة هذا العام يمكن أن تتقدم للامتحانات بشكل حر...لينا شاطرة كتير بس الله يهدي الأحوال ونرجع على بيتنا".
هذا العام بلغ عدد الطلاب المسجلين لامتحانات الشهادات العامة الثانوية والإعدادية بحسب احصاءات وزارة التربية 859039 طالباً وطالبة لدورة عام 2012، منهم 382829 طالباً وطالبة تقدموا لامتحانات الشهادة الثانوية ونجح منهم 231077 طالباً وطالبة اي بنسبة تزيد 60%. كل هؤلاء الطلاب السوريين درسوا وحضروا لامتحاناتهم على وقع أصوات القصف، كثيرون منهم قضى ليال دراسية طويلة على ضوء الشمعة أو داخل الحمام تحسباً من قذيفة طائشة.لم يمنعهم الخوف من الموت قنصاً أو قصفاً من التوجه لامتحاناتهم. وبالتأكيد لم يكن ليمنعهم عن فرحتهم الطبيعية بالنجاح. وقد استطاع أربعون منهم الحصول على درجات كاملة ومعظمهم من خارج العاصمة السورية.
بالطبع ليس هناك إحصاءات رسمية أو حتى تقديرية حول أعداد الطلاب الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المراكز الامتحانية بسبب أعمال العنف، ولا عن أعداد الطلاب الذين قضوا في بيوتهم تحت القصف من دون أن يتمكنوا من متابعة دروسهم، إلا أنه من المؤكد أن لينا والكثير من أمثالها ينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى مقاعدهم الدراسة لتحصيل العلم، وتوديع حياة النزوح والتمتع بحياة طبيعية آمنة مثل بقية الشر.
" الحياة لا تقف لأحد!!"، قالتها السيدة الحموية بنوع من الرضا والتسليم وهي تغادرنا، فقد حان موعد عودتها مع عائلتها إلى "البيت"..عفوا اقصد تلك المدرسة التي تأويهم حتى إشعار آخر!
في طريق عودتي، أنا وصديقتي، إلى المنزل لم يكن ثمة من حديث نتبادله، إلا أن شعوراً واحداً تملكنا نحن الاثنتين، ألا وهو: "الحياة حلوة، والسوريون يستحقونها".