يوميات سورية ـ مظاهرة في عرين الأسد وفي وضح النهار
٨ يوليو ٢٠١٢كنت في طريقي مؤخرا لزيارة إحدى صديقاتي بعد يوم مضن غير متوقعة أن شيئا من هذا القبيل سيحدث هنا أيضا؛ فنحن أولا وأخيرا في مكان محصن تماما ولا يمكن للمعارضة أن تحلم بالوصول إليه أو أن تفكر مجرد تفكير في القيام بشيء ما فيه. وما إن اقتربت من الشارع، الذي يقود إلى الزقاق الذي تسكن فيه صديقتي، حتى لمحت عن بعد مجموعة من الشباب والصبايا. المشهد أثار استغرابي، إذ كيف تمكن هؤلاء من التجمع في مثل هذا المكان الحساس، وفي هذا الوقت بالذات، دون أن يلفتوا النظر أو يثيروا الشكوك؟ فنحن أولا وأخيرا في ظروف مصيرية وفي أكثر أحياء العاصمة السورية دمشق تحصينا، إنه حي المهاجرين العريق الذي يقع فيه القصر الجمهوري أو ما يحلو للبعض أن يسميه بعرين الأسد.
تجمدت في مكاني وبدأت أراقبهم حيث أنا دون أن أتقدم خطوة واحدة تجاههم. وما إن دقت الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر تماما حتى صرخ أحدهم بالكلمة السحرية، التي باتت معروفة في سوريا منذ انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الرئيس بشار الأسد في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس من العام الماضي، وأقصد بها كلمة " تكبير". وبسرعة البرق ردد الشبان والشابات وراءه بالجواب المعهود: "الله أكبر.. الله أكبر". وهكذا أخذ الشبان والصبايا وضعية خاصة متلاصقين بعضهم ببعض وبدؤوا بالتحرك.
كانت أصوات هتافاتهم تتعالى شيئا فشيئا وأكثر كلمة كانت تردد وتسمع بشكل واضح هي: "جايينك جايينك"، بالطبع المقصود بها هو الساكن في قصر المهاجرين، أي الرئيس السوري بشار الأسد. فبالرغم من أن القصر الرئاسي السوري انتقل قبل سنوات رسميا إلى "قصر الشعب" المطل على مدينة دمشق، فإن هناك اعتقادا واسعا في أوساط السوريين أن أسرة الأسد تفضل البقاء في قصر المهاجرين. وما يعزز هذه القناعة هي الإجراءات الأمنية المشددة حوله. إذن هي "مظاهرة في عرين الأسد".
ومع ارتفاع الهتافات التي كانت تنطلق من حناجرهم كان الشباب والصبايا يقذفون بقصاصات صغيرة. كنت أرى هذه الأوراق أو المناشير وهي تطير في الهواء دون أن يجرؤ أحد من السكان أو المارة على التقاطها. كما قامت فتاتان من المشاركات في المظاهرة، وبحركة سريعة، بسكب مادة مشتعلة على الطريق وإشعالها لإغلاقه (الطريق) لإعاقة وصول عناصر الأمن أكبر قدر ممكن.
لقد رأيت الذهول على وجوه أهالي الحي، إذ لم يتوقع أحد أبدا أن تخرج مظاهرة في وضح النهار وفي مثل هذا المكان بالذات نظرا لموقعه الخاص كما بينت أعلاه. فهو لا يبعد عن المكتب الرئاسي أكثر من 100 متر تقريبا. وعلى الرغم من خطورة هذه المظاهرة على المشاركين فيها، إلا أنها لم تحمل أي طابع مسلح، إذ لم ألحظ وجود أي من عناصر الجيش السوري الحر، كما جرت العادة في معظم المظاهرات التي باتت تخرج مؤخرا في العاصمة السورية دمشق أيضا، بغرض "حمايتها" كما يقولون.
ومع كل هتاف كان يردده المتظاهرون كان السكان يخرجون إلى الشرفات أكثر فأكثر. وكان بعضهم يرسم ابتسامة التفاؤل المشوبة بالخوف على وجهه، أما النساء فبدأن بالدعاء لهم أملا بأن يعود هؤلاء الشبان والشابات سالمين إلى بيوتهم. كما لاحظت وجود بعض الأشخاص من المارة ومن أصحاب المحلات يتحدثون على الهاتف النقال بشكل هستيري معلنين "بدء الفصل الآخر من المسرحية".
انفضت المظاهرة بعد أن قطعت حوالي المائة متر فقط لا غير؛ وذلك عندما صرخ أحد الشبان بكلمة السر "فركش"، وهي بمثابة تحذير أن رجال الأمن و"الشبيحة" قادمون. وبمجرد سماع الكلمة تفرق المتظاهرون واختفوا في حارات حي المهاجرين المتفرعة. عدت سريعا إلى أقرب مكان لانطلاق المظاهرة واختبأت في أحد الأبنية وفي مكان سمح لي بمراقبة وصول عناصر الأمن والشبيحة" وكيفية تعاملهم مع مثل هذا الحدث. ومع تفرق المتظاهرين لاحظت وصول سيارة وباص صغير نزل منهما عناصر الأمن والشبيحة مدججين بالسلاح الكامل. كان الارتباك والذهول واضحين على وجوههم، فلم يكن أحد يتوقع "أن تصل النيران إلى باب الدار، إلى عقر دار آل الأسد".
وقف أهالي الحي يراقبون تصرفات عناصر الأمن المرتبكة. لقد قام هؤلاء بالتوجه نحو مكان المظاهرة بشكل هستيري وهم يشتمون ويطلقون أسوأ العبارات. كان بعض الشبان يطفئون النار التي أشعلتها الفتاتان ويجمعون أوراق المناشير الصغيرة التي فرشت الأرض بها للتخلص منها فما كان منهم إلا أن هاجموهم رافعين السلاح في وجوههم ووجوه المارة وبدؤوا بإطلاق النار بشكل عشوائي. وبالفعل تمكنوا من إصابة أربعة منهم على الأقل وهرب الآخرون إلى المحلات المجاورة.
أحد الشبان المصابين لجأ إلى أحد المطاعم القريبة فقام عناصر الأمن بمداهمة المطعم واعتقال من فيه، كما قاموا باعتقال الجرحى ووضعوهم في الباص الصغير أيضا. ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بحركة اعتقالات عشوائية إذ ألقوا القبض على أي شخص كان يمر من تلك المنطقة.
بعد ذلك توافدت أعداد كبيرة من التعزيزات الأمنية حيث قام العناصر الجدد بالانتشار في الشوارع الفرعية للحي تحسبا لعودة المتظاهرين. كما قام بعض العناصر بجمع المناشير التي كانت لا تزال تفرش المكان وكذلك الرصاص الذي أطلقه رجال الأمن على المارة.
بعد حوالي ساعة من ذلك عاد الهدوء إلى الحي وأجبر عناصر الأمن أصحاب المحلات على إعادة فتح محلاتهم بعد أن أغلقوها نتيجة سماع صوت إطلاق الرصاص وكأن شيئا لم يكن. خرجت من البناء الذي كنت مختبئة فيه طوال الوقت. سمعت أحد عناصر الأمن يتحدث مع واحد من "عواينية" الحي ويعاتبه كيف أنه لم يخبرهم بما يحدث أو حتى يتنبأ بحدوثه. كان كلامه مسموعا إلى حد كبير والكلمات التي وصلت إلى مسامعي كانت واضحة: "لم نحسب حساب هذه المظاهرة على الإطلاق في هذا المكان. لقد فوجئنا بها وهذا تطور خطير يجب تداركه".
سوسن محروسة
صحفية سورية تقيم في دمشق
مراجعة: أحمد حسو