ألمانيا الغنية تعاني من زيادة عدد الفقراء
تتمتع ألمانيا بسمعة اقتصادية طيبة، وتحظى منتجانتها الصناعية بالاحترام لجودتها العالية. كما أنها دولة غنية تشكل مع فرنسا قاطرة اقتصاد دول الإتحاد الأوروبي. ومع ذلك فهي تعاني من مشكلة الفقر! فلقد كشف تقرير حالة الغنى والفقر الذي قدمته وزيرة الشؤون الاجتماعية "اولا شميدت" إلى البرلمان الألماني عن تمزق حاد في البنية الاجتماعية، ففي الأعوام الخمسة الماضية ازدادت حالات الفقر مقابل زيادة ثروة الأغنياء. وقد أدى ذلك إلى اتساع الهوة التي تفصل بينهما بشكل كبير. ويعتبر التقرير البطالة المرتفعة التي تعاني منها ألمانيا سبباً رئيسياً في ازدياد معدل الفقر. يذكر أن نسبة البطالة وصلت إلى رقم قياسي مطلع العام الحالي حيث تخطت حاجز الخمسة ملايين عاطل.
ووفقاً للتقرير الذي قدمته وزيرة الشؤون الاجتماعية يوم الأربعاء فإن نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفعت بين عامي 1998 و 2003 من 12,1 إلى 13,5 بالمائة، ووصلت في حالة العائلات إلى 13,9 بالمائة. ومما يعنيه ذلك أن هناك 11 مليون مواطن فقير في ألمانيا التي يصل تعداد سكانها إلى 82 مليون نسمة. أما أكثر الفئات المتضررة فهي فئة المهاجرين والأسر التي يزيد عدد أطفالها على ثلاثة إضافة للامهات الوحيدات. أما في النهاية الأخرى من السلم الاجتماعي فذكر التقرير أن الثروات الشخصية نمت لتصل إلى 5 مليارات يورو عام 2004. ومما يعنيه ذلك أن نسبة الثروة ارتفعت بين عامي 1998 و 2003 بنسبة 17 بالمائة. كما أوضح التقرير أن هذه الثروات ليست موزعة بشكل متساوي، فنسبة 50 بالمائة من الناس تمتلك 4 بالمائة فقط من الثروة الوطنية، بينما تحصل نسبة 10 بالمائة منهم على 47 بالمائة منها.
يُذكر أن خط الفقر في الدول النامية وتلك التي على أعتاب التصنيع يقدر بدولار أو اثنين في اليوم أي 30 إلى 60 دولار في الشهر، بينما يختلف في الدول الصناعية تقدير مستوى الفقر، ففي ألمانيا يعد فقيراً من يحصل على نسبة أقل من 60 بالمائة من متوسط دخل الفرد. ويقدر خط الفقر في الولايات الألمانية الغربية بـ 730 يورو شهرياً، بينما يقدر في الولايات الشرقية بـ 604 يورو شهرياً.
المعجزة الاقتصادية
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية منهارة اقتصادياً. وعانى قطاعها الصناعي من أوضاع متردية بسبب الدمار الذي لحق به. وبعد الحرب وتقسيم البلاد قرر الحلفاء المنتصرين ترسيخ اقتصاد السوق في ألمانيا الغربية وإرساء قواعد الديموقراطية في الحياة السياسية. وفي فترة الخمسينات والستينات نجحت ألمانيا الغربية بدعم الحلفاء وبمساعدة الآلاف من العمال الأجانب في تسيير عجلة التصنيع مرةً أخرى، فانتعش الاقتصاد وارتفع سعر العملة وحققت مكاسب واسعة. واستمرت المعجزة الاقتصادية الألمانية في النمو حتى وصلت إلى عصرها الذهبي في الثمانينات حيث أصبحت في مقدمة الدول المصدرة، وحل اقتصادها في المرتبة الثالثة علي الصعيد العالمي بعد اقتصادي الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. وتميز فيها قطاعات مثل وسائل النقل والمعدات الثقيلة والطاقة إضافةً إلى صناعة الكيماويات والأجهزة الكهربائية. ونجحت المنتجات الألمانية في غزو الأسواق بسبب جودتها العالية.
مصاعب حاضرة
غير أن الاقتصاد الألماني عانى من صعوبات جمة في فترة التسعينات من القرن الماضي. وعلى رأسها عبء تطوير الولايات الشرقية بعد الوحدة الألمانية. فقد شكلت تكاليف تطوير البنية التحتية وتحسين المرافق في الجزء الشرقي عبئاً متزايداً على ميزانية الدولة، وأدى ذلك إلى تباطء النمو الاقتصادي وتعرضه إلى التأرجح وعدم الثبات. الصعوبة الثانية التي واجها الاقتصاد الألماني هي اشتداد المنافسة بعد اتفاق بلدان الاتحاد الأوروبي على فتح حدودها أمام البضائع. وهو الأمر الذي أدى إلى توفير منتجات رخيصة في السوق يقبل عليها المستهلك بدلاً من المنتج الألماني مرتفع السعر. ولقد عانت صناعة المنسوجات والأحذية بشكل خاص من هذه المنافسة المستعرة.
من ناحية أخرى أدى ارتفاع تكاليف الإنتاج في ألمانيا إلى هجرة الشركات الكبيرة إلى مناطق أخرى في العالم توفيراً لنفقات الانتاج، فعلى سبيل المثال أصبحت دول آسيا وشرق أوروبا مركز جذب للاستثمار العالمي في الوقت الحالي. وتشتكي الشركات الصناعية من ارتفاع أجور العمل مقارنة بمثيلها في تلك الدول، علاوةً على ارتفاع تكاليف الضمانات الاجتماعية والمعاشات التي ينبغي على الشركات دفعها لعمالها. ولقد ساهمت هجرة الشركات وخططها التقشفية في ارتفاع كبير لنسبة البطالة في ألمانيا ليصل إلى أرقام قياسية.
إصلاحات حكومية
ألقت المصاعب الاقتصادية بتبعاتها على الجانب الاجتماعي، ويعد تقرير حالة الفقر والغنى سالف الذكر وثيقةً مهمة في هذا السياق. لذلك سارعت الحكومة الألمانية إلى تنفيذ خطة إصلاحات واسعة لنظام المعاشات والضمانات الاجتماعية وهي المعروفة بخطة هارتز التي تدخل هذا العام مرحلتها الرابعة، وتأمل الحكومة عبرها في تحقيق دفعة اقتصادية. وبمقتضى هذه الإصلاحات سيتم تخفيض قيمة الضمانات الاجتماعية وتعديل نظام إعانات البطالة، وبالتالي تخفيف الحمل عن كاهل الميزانية الحكومية، كما تعمل هذه الإصلاحات على تخفيض الضرائب في محاولة لجذب أموال المستثمرين.
رغم أنه من السابق لأوانه الآن تقييم الاصلاحات المذكورة فإن الكثير من المراقبين متشائمين من تأثيرها على سوق العمل. وعلى الصعيد السياسي الداخلي عرضت انجليكا ميركل رئيسة الحزب المسيحي الديموقراطي المعارض في رسالتها إلى المستشار شرودر تعاوناً بين المعارضة والحكومة لمحاربة البطالة. وهي الإشارة التي تلقتها الحكومة بشكل ايجابي وتهدف إلى أجراء تعديل على بعض قوانين العمل. كما صرح الرئيس الألماني هورست كولر ذو المنصب الشرفي بأنه سيشارك في منتدى أرباب العمل المسمى "الاقتصاد والمجتمع" وسيلقي خطبة ينتظر أن تكون موجعة يحث فيها الأحزاب والاتحاديات والنقابات إلى العمل سوياً لمواجهة البطالة.