ألمانيا.. امتعاض ومعارضة لشراء كنائس وتحويلها لمساجد
٢ يونيو ٢٠١٩الصورة الأولى: أسارير منفرجة وشفاه باسمة، ورجل ملتحٍ بزي باكستاني يحمل ورقة يعرضها بفخر أمام الكاميرا. الصورة الثانية: منظر خارجي لبناء يتوسطه صليب كبير. الصورة الثالثة: قاعة كنيسة بمقاعد خالية مصفوفة بانتظام، وزوجا أحذية ورجلان يتوجهان للقبلة مصليين تحت الصليب. الصور الثلاثة يجمعها منشور واحد على فيسبوك. أعلى الصور إعلان عن قيام "مركز الدعوة الإسلامية" بشراء كنيسة في مدينة هاغن الواقعة في ولاية شمال الراين-ويستفاليا.
المنشور بعث الروح بجدل قديم في أوساط الجالية المسلمة في ألمانيا، وهو: شراء كنائس وتحويلها لأماكن عبادة للمسلمين. انبرى الباحث والكاتب المتخصص بالشؤون الإسلامية، محمد أمير ناشر النعم (49 عاماً) معارضاً، فما كان من صاحب المنشور، الذي يعرّف عن نفسه في فيسبوك بأنه "خطيب جامع"، إلا أن حظره.
ورقة "ستوظف" ضد المسلمين
حاجج محمد على فيسبوك أن للأمر "مآلات سلبية" وتؤدي إلى إثارة اليمين المتطرف وتدفع المواطن الأوروبي العادي للحذر والتوجس. وفي تصريح لـ DW عربية يقول الوافد السوري منذ سنوات قليلة إلى ألمانيا "تتطاير شرارات العداء من عيون اليمين المتطرف تجاه كل مهاجر ولاجئ ومختلف، ويأتي بعضٌ من المسلمين في هذه الأجواء المشحونة فيشترون كنيسةً ما ويزيلون رموزها المسيحية ويحولونها إلى مسجد وسط استعراض وتكبير وتهليل وملامح انتصار، ويقدّمون لليمينيين ذريعة فوق ذرائعهم، ومسوغاً إلى مسوغاتهم". ويتابع محمد أمير ناشر النعم أن شراء الكنائس ليس أمراً اضطرارياً لا بديل عنه، فالأراضي والمباني المدنية متوفرة، على حد قوله.
مؤخراً في مدينة Lüchow في الشمال الشرقي من ولاية سكسونيا السفلى اشترت الجالية المسلمة محطة قطارات تاريخية كانت خارج الاستخدام وحولتها إلى مسجد. وفي منشور على فيسبوك يعود لنهاية العام 2014 حذر الدكتور خالد حنفي، وهو شخصية إسلامية ناشطة في ألمانيا وعموم القارة الأوروبية، من مغبة الإقدام على "شراء الكنائس وتحويلها لمساجد، وحتى لو سمح القانون بذلك أو وافق عليها أهل حي الكنيسة"، مبرراً رأيه بأن ذلك السلوك لا يعكس نضج المسلمين أو وعيهم، ويضيف بأن ذلك ورقة ستوظف في وقت من الأوقات "ضد مسلمي أوروبا"، على حد تعبيره.
نزيف كنسي
شراء كنيسة وتحويلها لمسجد ليس بالأمر الجديد. على سبيل المثال لا الحصر، نهاية العام الماضي (2018) جرى افتتاح مسجد النور في مدينة هامبورغ. وقد باعت الكنيسة البروتستانتية بناء الكنيسة لمستثمر قام بدوره بعرض العقار للبيع على شبكة الإنترنت. ومسجد النور هو الأول من نوعه الذي كان سابقاً كنيسة بروتستانتية. وبشكل عام معظم الكنائس التي يتم بيعها لا تتبع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، بل هي كنائس مستقلة.
وشهدت السنوات العشرين الأخيرة تحويل عدة كنائس إلى كنس يهودية ومركز واحد على الأقل للطائفة العلوية وآخر لشيعة، هو "مؤسسة التراث" في برلين، التي تتبع المرجع علي السيستاني في العراق.
وتشير تقارير صحفية وإحصائية ألمانية إلى أن الكنيستين الكبيرتين في البلاد، الكاثوليكية والبروتستانتية، تعانيان من تراجع في عدد الأتباع ورواد دور العبادة. ومن هنا يتم إغلاق وإزالة وهدم بعض الكنائس أو إعادة استخدامها لأغراض أخرى: رياض أطفال، ومدارس فنية، وصالات رياضية، وصالات حفلات، على سبيل المثال لا الحصر.
وحسب تقرير صحفي للإذاعة الألمانية العمومية Deutschlandfunk يعود للعام 2017 فإن الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا تملك 24 ألف كنيسة. في المائة سنة الماضية تم بيع 84 منها وإزالة 88. أما الكنيسة البروتستانتية فتملك ما مجموعه 23 ألف مكان عبادة، منها 300 فارغة الآن أو تستخدم لأغراض أخرى. وتم إزالة أكثر من 100 كنيسة بين الأعوام 1990 و2014.
غير "سديد" ولا "مناسب"
أفاد مدير العلاقات العامة والمتحدث باسم "مؤتمر الأساقفة الألمان" (DBK)، وهو أكبر تجمع للكنائس الكاثوليكية في ألمانيا، ماتياس كوب، لـ DW عربية أن المؤتمر لا يرى أن تحويل الكنائس إلى مساجد تصرف "سديد". وذكّر كوب ببيان صادر عن المؤتمر في عام 2008 متعلق ببناء المساجد في ألمانيا. البيان شدد على "الاعتراف الصريح" بالحرية الدينية المتضمنة بناء دور العبادة المناسبة، بيد أن البيان أكد على "ضرورة" مراعاة الجوانب الاجتماعية والديمغرافية والعمرانية، بما لا يؤدي إلى نشوء مجتمعات "موازية". وأكد كوب أن عدد الكنائس الكاثوليكية التي بيعت لمسلمين وحولت لمساجد "صفر".
ومن جانبها أفادت متحدثة باسم الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا (EKD) لـ DW عربية أن تحويل كنائس إلى مساجد في ألمانيا أمر "نادر" الحدوث. وتابعت قائلة: "الكنائس ترتبط بذكريات كالصلاة والتعميد والزفاف. ومن هنا ترى الكنيسة البروتستانتية أن تحويل الكنيسة لمسجد ليس الطريق المناسب"، مؤكدة على أن هدف حوار الأديان هو تحقيق التعاون والتعايش السلمي والتبادل اللاهوتي بين الأديان، مستدركة أن ذلك لا يعني أن الأديان قابلة للتبادل أو أن يحل دين محل دين آخر، على حد تعبيرها.
وتجدر الإشارة إلى أن ثلث سكان ألمانيا كاثوليك، وثلثهم بروتستانت، والثلث المتبقي من السكان لادينيون، هذا إلى جانب أقليات دينية. ويقدّر عدد المسلمين في ألمانيا بحوالي 5 ملايين شخص، أي حوالي 6 % من إجمالي السكان، غالبيتهم أتراك أو من أصول تركية. ويزيد عدد العرب عن مليون، غالبيتهم من السوريين الذين بلغ عددهم حوالي 750 ألفاً نهاية العام المنصرم.
لا يوجد رقم دقيق لعدد المساجد والمصليات في ألمانيا: تقديرات "المجلس المركزي للمسلمين" في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي كانت حوالي 2500، وفي نفس الاتجاه تقريباً قدرها خبراء في البرلمان الألماني (بوندستاغ) بين 2350 و2750.
ماذا عن الرأي العام الألماني؟
في السنوات القليلة الماضية ازدادت عدد الهجمات على المسلمين والمساجد والمنشآت الإسلامية في ألمانيا، حسب بيانات وزارة الداخلية. إلا أنها تراجعت عام 2018 بشكل ملحوظ، مقارنة بالعام الذي قبله. إذ بلغت تلك الهجمات من شهر كانون الثاني/ يناير 2018 حتى أيلول/ سبتمبر من نفس العام 578 هجمة، بينما كانت 780 اعتداءً في الشهور التسعة الأولى في عام 2017. توقعات سلطات الأمن أشارت إلى أن الجناة في كل هذه الجرائم تقريباً هم من اليمين المتطرف.
غطت الكثير من وسائل الإعلام الألمانية الرصينة مثل موقع دير شبيغل وتاغس شبيغل وصحف محلية وغيرها، قضية شراء المسلمين لكنائس بموضوعية وبلغة حيادية معتمدة على الحقائق والأرقام ومفسحة المجال لأصوات مؤيدة ومعارضة. وقد اعتمدنا في تقريرنا على بعض المعلومات والأرقام المستمدة من تلك التقارير.
غير أن بعض رواد وصفحات شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات والمواقع اليمينية المتطرفة والشعبوية اتخذت نهجاً تصعيدياً مستخدمة مفردات تحريضية. موقع Anonymous New، الذي يربطه كثيرون بروسيا، كتب "الأسلمة في ألمانيا تخطو خطوات جديدة: كنائس مسيحية تصبح مساجد". وتابع الموقع، الذي نشر مرات عديدة أخباراً كاذبة عن المهاجرين والأجانب، بأن أجراس الكنائس في خمس مناطق في محيط مدينة آخن "صمتت"، بينما أخذ يعلو صوت مكبرات المساجد تؤذن للصلاة.
خالد سلامة