إبراهيم أصلان: خيري شلبي كان متخوفاً من أن تصبح مصر دولة دينية
١٢ سبتمبر ٢٠١١جاءني صوته عبر الهاتف حزيناً، واهناً، مختنقاً بالدموع. اعتقدت أنه مريض، لكنه قال لي: فراق خيري أثر فيّ بشدة، بل إني أتخيل أنه سيرفع سماعة التليفون الآن ويتصل بي.
كان خيري شلبي من الأصدقاء المقربين للقاص إبراهيم أصلان. وكانا يتحدثان يومياً بالهاتف، خاصة "بعد أن قلّت الحركة وفرص اللقاء". وهذا ما حدث في فجر يوم الجمعة (9/9) عندما اتصل صاحب "وكالة عطية" بأصلان وتحدث معه طويلاً في موضوعات شتى، ثم انقطع الخط، فظن أصلان أن شلبي رجع إلى الكتابة. وبعد المكالمة – هكذا عرف أصلان فيما بعد – ظل شلبي جالساً مع زوجته، وكان معتاداً أن يشرب كوباً من الحليب قبل أن ينام، وعندما عادت زوجته من المطبخ ومعها الكوب، وجدته ممداً على السرير وكأنه فارق الحياة، فظنَت أنه كعادته يمزح معها، فقالت له: ألن تتوقف عن هذه المداعبات، أنت تعرف أن ضغط دمي عالي. لكنها لم تكن مزحة. كان الموت قد خط السطر الأخير في حياة الروائي الكبير.
عندما عرف أصلان الخبر، ذهب على الفور إلى صديق العمر. "ودعتُه وعانقتُه وتخيلتُ أنه سيقوم معي"، يقول إبراهيم أصلان في الحديث الذي خص به دويتشه فيله، رغم ما يشعر به من حزن عميق وألم حاد لفقدان صديقه. (للاستماع إلى الحديث كاملاً اضغط على الرابط أسفل المقالة!)
دويتشه فيله: كانت تربطك صداقة عمر بالراحل الحكاء الكبير خيري شلبي، وهو اتصل بك تلفونياً قبل وفاته بقليل – عن أي شيء دار حديثكما؟
إبراهيم أصلان: يصعب عليّ أن أتحدث عن خيري باعتباره لم يعد موجوداً بيننا. ولكن عموماً كانت المكالمات التليفونية بيننا لا تنتهي طوال سنوات طويلة، تقترب من نصف قرن الآن، وخصوصاً بعد أن قلّت حركتنا وفرص لقائنا. لم يكن خيري ينام الليل، وأنا مثله. آخر مكالمة كانت قبل رحيله بوقت قليل. اتصل بي في الثانية فجراً، وسألني عن اسم الجزء الثالث من "الكوميديا الإلهية" لدانتي، لأنه كان يكتب مقالاً لجريدة "الوفد" وبحاجة إلى هذا العنوان.
يعني الكاتب الكبير خيري شلبي توفي وهو منهمك في الكتابة؟
نعم، لا أعرف ما إذا كان قد انتهى من كتابة المقال، لأني قلت له: لا أريد أن أعطلك، لكنه رد أن الوقت ما زال مبكراً.
خيري كان يتمتع بذاكرة قوية جداً، كما أنه صاحب أقسى وأغنى التجارب التي مر بها أبناء جيلنا؛ فضلا عن أنه تربى على السيّر الشعبية وعرف الكثير عن الفلاحين وأبناء المدن، كما تنوعت أماكن إقامته – كان ذخيرة حية من العلاقات شبه السرية التي لا يعرف معظمنا عنها شيء. ومن هنا كانت دردشتنا تستدعي شيئاً من تلك التجارب.
تطرق بنا الحديث إلى مصطفى أمين وعلي أمين ومدرسة "أخبار اليوم" في الصحافة، ثم انتقل إلى الكلام عن مدرسة "روز اليوسف"، وعن صلاح حافظ الذي كان بوسعه أن يحرر مجلة وحده، ثم محمد التابعي الذي أعطى للصحافة قيمة. وتطرق الحديث إلى النشر وموضوعات مختلفة. كانت هناك حالة من الحزن ترافق خيري في الفترة الأخيرة، في الشهور الأخيرة.
وما السبب؟
لا أعرف. أمور عديدة، كانت عنده مخاوف بالنسبة لما يدور في مصر. كان شبه مرعوبا من أن تتحول البلد إلى دولة دينية.
هل تُحدثنا قليلاً عن رؤية خيري شلبي للثورة المصرية ومستقبل مصر في السنوات القادمة؟
دعنا نقول إنه كان يخشى بشدة المستقبل – وخاصة بعد حالة الارتباك ... نحن نعيش في حالة من الإلغاز، وبدأنا نتأقلم مع هذا الوضع. وللأسف فصيل، مثل فصيل الإخوان، اطمأن إلى أن الأمور قد أصبحت مهيأة بالنسبة له، فتخلى عن رفاق الثورة تقريباً وعن الذين قاموا بها. وعندما يخرج الناس ليطالبوا بتصحيح المسيرة فإنهم لا يخرجون معهم، مع أن تصحيح المسيرة أصبح فرض عين؛ ثم تُفاجأ بهذه الجحافل من السلفيين الذين لا تعرف من الذي أخرجهم؛ فطبعاً هناك خوف من أن تصبح مصر دولة دينية، وإنْ كنت أستبعد هذا تماماً، مصر لا يمكن أن تكون دولة دينية. مصر لا يمكن أن تكون طالبان أو باكستان أو أفغانستان. هذا لا يتواءم مع الحالة التاريخية بشكل عام، ولا مع تكوين المواطن بشكل عام. المصريون أكثر شعوب الدنيا تديناً. المصري متدين ولكنه يحب الحياة، متدين في النور، وليس في العتمة. كما لا يمكن الاستهانة بكتائب لا أول لها ولا آخر من الليبراليين والمستنيرين والذين يتطلعون إلى دولة تصون حقوق المواطن وكرامته وتمنحه حريته. هذه قوة لا يُستهان بها على الإطلاق. مخاوف خيري شلبي مشروعة، لأنه كان يرى أن هذا إن حصل فستكون نهاية سوداء بالنسبة لمصر.
روايات خيري شلبي تنبض بالحياة، ومن طالع روايته البديعة "موال البيات والنوم" أو روايته المشهورة "وكالة عطية" أو "صالح هيصة" يعرف أنه لم يكن يكتب من وحي الخيال، بل من قلب الحياة. كيف ترى مكانة خيري شلبي في الأدب المصري المعاصر؟ ولماذا تجاهله النقد طويلاً؟
كان خيري شلبي حالة خاصة جداً، يكتب بكل عنفوانه، ورغم هذا عاش طول الوقت وهو ينتوي كتابة روايات أخرى، وطوال الوقت كان يكلمنا عن مشاريع روائية جديدة. خيري إضافة بالغة الأهمية والقيمة للرواية العربية، وخصوصاً أننا لا نجد أنداداً بهذا الحجم. في السنوات الأخيرة تم الاعتراف به، وكان من المتصدرين للمشهد الثقافي.
نعم، ولكن فقط في السنوات العشر الأخيرة - قبل ذلك كان يلقى التجاهل تقريباً.
حتى أقل من عشر سنوات. خيري كان عنده حالة من حالات الفيض في الكتابة، وكان بعض النقاد يرون أن هذا الفيض يصيب أحياناً بعض أعماله بقليل من الترهل. كما أنه ينتمي إلى جيل كانت العناية بالشكل والبنى مهمة. هذه الأشياء لم تكن مهمة بالنسبة لكاتب مثل خيري مشحون بما يكتبه.
هل ترجع ذلك إلى موقفه السياسي؟ مثلاً أنه لم يكن منتمياً إلى اليسار، ومعظم النقاد اللامعين آنذاك كانوا يساريين؟ وأن رواياته تهتم أكثر بعالم المهمشين وعالم الفقراء، وبعيدة عن الهم السياسي المباشر؟
لا، عالم المهمشين والفقراء في قلب الهم السياسي، هذا هو المفترض.
صحيح، هذا هو المفترض!
خيري شلبي عاش فترة طويلة وهو مقتنع بأن الأسماء اللامعة في النقد برزت نتيجة لوقوف تيارات سياسية وراءها، أو نتيجة لنوع من الشللية. كانت لديه أسبابه القوية لمثل هذه الشكوك.
ترك الراحل نحو سبعين كتاباً. أحياناً يتساءل المرء: كيف وجد الوقت لكتابتها، وهو الذي لم ينقطع عن الناس والمقاهي؟
طبعا بينها عدد كبير من الروايات، ولكن بينها أيضاً دراسات ومقالات، هذا عدا مئات التمثيليات التي أعدها للإذاعة في بداية حياته. وهذا غير عدد كبير من البورتريهات التي رسمها بالكلمات لمجموعة من الشخصيات الصحفية. لقد أنجز أعمالاً كثيرة جداً لا يمكن حصرها.
ما هي أقرب أعمال خيري شلبي إلى قلب إبراهيم أصلان؟
أرى أن أكثر أعمال شلبي إحكاماً هي رواية "الوتد". هذه الرواية هي أول عمل مدهش بالنسبة لي. هناك أعمال أخرى أحببتها، مثل "موال البيات والنوم" و"وكالة عطية".
رغم غزارة أعماله لم يترجم من أعماله إلا القليل، على عكس ما حدث مع كثير من أدباء جيله ممن هم أقل موهبة أحياناً. إلى أي شيء ترجع ذلك؟
أظن أن مترجم خيري شلبي لا بد أن يكون على دراية بالثقافة المصرية - ليست الثقافة المكتوبة، بل يجب أن تكون لديه القدرة على إدراك تفاصيل الحياة اليومية المصرية حتى يفهم أعمال شلبي التي هي تعبير عن خصائص شعبية. أعتقد أن هذا أحد الأسباب التي ضيقت الفرصة أمام ترجمة أعماله. ليس هناك من المترجمين سوى قلائل من يستطيعون أن ينقلوا أعمالاً مثل أعمال خيري شلبي. الدليل على هذا أن نجيب محفوظ نفسه قبل نوبل لم يكن قد تُرجم بشكل كافٍ.
هذا صحيح، فلغة خيري شلبي وعوالمه المغرقة في المحلية والشعبية تتطلب جهداً كبيرا جدا من المترجم لنقل هذه العوالم إلى ثقافة أخرى. رغم أني أرى أن هذه العوالم تحديداً مثيرة وغرائبية ومدهشة بالنسبة للقارئ الأجنبي، ولكن من الصعب نقلها بالطبع.
نعم، من الصعب نقلها، ولا بد أن يكون المترجم – وهذا ينطبق على أي مترجم، وليس على مترجم خيري شلبي فقط – على معرفة بالثقافة بمفهومها الأوسع، وبالعادات والبيئة التي يترجم عنها. هناك مترجمون أجانب لم يعيشوا الحياة العربية، وبالرغم من هذا قاموا بترجمة أعمال – لا أريد أن أقول إنهم أخذوا الأعمال من سطحها. ونحن نعرف أن هناك أعمالاً عربية حققت نجاحاً بعد الترجمة بفضل المحرر الذي نقح الترجمة قبل نشرها. هناك عامل آخر بالنسبة لشلبي وهو أن معظم أعماله مطولة – وهذا قد لا يغري المترجمين.
أجرى الحوار سمير جريس
مراجعة: يوسف بوفيجلين