اختبار قوة حاسم بين "النهضة" وسلفيي أنصار الشريعة في تونس
٢١ مايو ٢٠١٣عندما اعتلت حركة النهضة الاسلامية الحكم في تونس، في أول انتخابات حرة بعد الثورة التي أطاحب بحكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، كانت المقارنات التي تصدرت إلى الواجهة تذهب إلى اقتراب نمط الحكم المتوقع مستقبلا في الدولة التي قادت ثورات الربيع العربي، إلى النموذج التركي حيث يقود حزب العدالة والتنمية الاسلامي بقيادة رجب طيب اردوغان البلاد منذ اكثر من عشر سنوات ويحسب النجاح الأكبر له،التزامه الصريح والعملي بالنظام الديمقراطي والعلماني في الحكم مع احتفاظه بمرجعيته الاسلامية.
لكن النمط الذي كان غالبية التونسيين ينظرون اليه بإعجاب ووجد ترويجا في البداية من قادة حركة النهضة الاسلامية بدى وكأنه بعيد المنال في ظل تعمُق التحالف غير المعلن بين حركة النهضة والتيارات الاسلامية المتشددة التي بدأت تعلن عن نفسها في المشهد العام بتونس مستفيدة من مناخ الحريات الذي أعقب الثورة.
فباتت النخب العلمانية والثقافية في تونس ترى نفسها الطرف الذي يدفع ثمنا باهضا، مع تلقيها لضربات متتالية سواء بالعنف الجسدي أو بالتهديد او بالاعتداء على الفضاءات والاجتماعات والعروض الفنية من قبل جماعات سلفية، بدأت بتوظيف العنف وسياسة التكفير في تعاملها مع الآخر حتى مع الجماعات الاسلامية المعتدلة. وفي ظل "التغوُل" السلفي المتزايد في الشارع بدأ المجتمع المدني يلقي باللائمة على السلطة ويضغط باتجاه مطالبة الحزب الحاكم بتوضيح رؤيته السياسية والثقافية لإدارة الدولة.
بداية الطلاق بين "النهضة " والسلفيين
وكان على حزب النهضة الحاكم بداية ان يحسم أمره بشأن الجدل المتعلق باعتماد الشريعة دستورا للبلاد، وهو الخيار الذي احدث أولى الفجوات بين حزب النهضة والتيارالسلفي المتشدد. وزادت الفجوة اتساعا مع الملاحقات القضائية التي أعقبت أحداث السفارة الامريكية في ايلول/سبتمبر الماضي عملا بقانون مكافحة الارهاب. ولكن طبول المواجهة بدأت تدق بشكل أعنف مع لجوء العناصر المتشددة إلى حمل السلاح ومنازلة الدولة في احداث متفرقة، وهو تطور لم تجد حركة النهضة بُدا من ان تحسم فيه أمرها وهي تدرك أنها ستكون عرضة لتبعات سياسية قد تكون ذات تأثير مباشر على المستقبل السياسي للحزب في الحكم وفي الانتخابات المقبلة.
وجاءت تصريحات قادة الحزب وعلى رأسهم زعيم الحركة راشد الغنوشي حاسمة بشأن التنظيمات السلفية المتشددة، الامر الذي ينذر بتصعيد المواجهة بين الطرفين.
وفي حديثه مع DW عربية اعتبر عبد الوهاب الهاني الأمين العام لحزب المجد ورئيس مركز المجد للدراسات الدولية "إن ما يحدث اليوم بين الحزب الاسلامي الحاكم والسلفيين يعد نادرا في العالم الاسلامي، نادرا ما نجد تيارات اسلامية متشددة تعادي حكومة اسلامية". ويعتقد السياسي والحقوقي التونسي ان "الدولة التونسية اليوم قد حسمت أمرها خاصة بعد احداث (جبل) الشعانبي حينما فُجع الرأي العام بإصابة خيرة الجنود والضباط وباكتشاف الألغام والمتفجرات وتكديس الأسلحة في تونس". وتابع الهاني في حديثه "هناك إرادة لدى الرأي العام التونسي...دفعت الدولة إلى أن تحسم أمرها في مواجهة تيار لا يملك دعوة سلفية وإنما يدعو إلى الارهاب ويحرض عليه ويعلن عن انتمائه إلى تيار ارهابي عالمي هو تنظيم القاعدة".
السلفيون كورقة انتخابية
طالما كان ينظر الى التيارات السلفية المتشددة التي تتميز بالحماسة وبقدرتها على الحشد في الشارع والتجييش في المساجد على انها لاعب محوري واحد الأوراق التي يعول عليها الحزب الاسلامي الاكبر في تونس ويقود الائتلاف الحاكم، في الحملات الانتخابية المقبلة، حتى وان كان السلفيون يبدون في الظاهر نفورا من فكرة الانخراط في منظومة انتخابية ديمقراطية. لكن بمجرد اسقاط مقوم "نموذج الحكم الاسلامي الصرف" المتمثل في الشريعة، من حسابات النهضة، فقد تحولت هذه الاوراق إلى نقمة على حركة النهضة ومصدر ازعاج لصورة الحزب لدى الرأي العام والدولي الذي يرقب الانتقال الديمقراطي في تونس.
مع ذلك فإن التململ لا يزال قائما بين أجنحة الحزب الاسلامي، المعتدلة والمحافظة بشأن كيفية التعامل مع السلفيين المتشددين. ورأى عبد الوهاب الهاني ان "هناك صراع حقيقي داخل الحزب الحاكم ولدى عدد من الولاة(محافظو الولايات). لاحظنا حالة التململ لدى والي القيروان في رفضه لتنفيذ قرارات وزير الداخلية، وهناك جناح داخل حركة النهضة الاسلامية تريد ان تغازل السلفيين".
وأردف الهاني قائلا "للأسف ان هناك حسابات انتخابية تحركهم لأنهم يعتبرون ان هذا التيار السلفي العنيف هو جزء من قاعدتهم الانتخابية لا يمكن التفريط فيه". ويحذر السياسي التونسي قائلا"لكن هذا يعتبر لعبا بالنار" مشيرا إلأى تجارب الجزائر والعراق التي "اثبتت ان التعامل مع الارهاب لا يمكن الا ان يكون عبر أدوات الدولة والقانون".
اختبار قوة حاسم
ومع ان الدولة دأبت على التعامل بحزم مع أي نشاط ارهابي يهدد كيانها وقد برز ذلك في عدة أحداث منذ ما قبل ،وآخرها كانت أحداث جبل الشعانبي غرب البلاد على الحدود الجزائرية عندما عمدت جماعات متشددة إى زرع ألغام، فإن الترقب ظل يسود الرأي العام في تونس حتى يوم الاحد الماضي بشأن طريقة التي ستتعاطى بها السلطة مع تنظيم انصار الشريعة الذي قرر عقد مؤتمره بمدينة القيروان التاريخية وحشد له اربعين الف مشارك لحضوره.
واُعتبر المؤتمر اختبار قوة بين الدولة والتنظيم وبين القانون والفوضى. وحسمت في الأخير الدولة الأمر لصالحا ومنعت المؤتمر غير المرخص. لكن هل يعني ذلك انها حسمت موقفها بشكل نهائي في التعاطي مع هذه الجماعات؟
يقول عماد الدايمي الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الشريك في الائتلاف الحاكم، في حديثه مع DW عربية "نعتبر انه من الضروري ان نميز بين الجماعات السلفية التي ترفع لواء الجهاد ضد الدولة او المجتمع والتي تدعو إلى العنف او تمارس العنف وبين الجماعات السلفية المسالمة..".
ويستدرك الدايمي قائلا "من واجبات الدولة التصدي لكل الظواهر العنيفة وكل من يدعو الى العنف وكل من يسعى الى فرض نمط مجتمعي على بلادنا. ودور المجتمع المدني هو ان يسند الدولة ويسند المؤسسات الأمنية والعسكرية في جهدها للتصدي لمثل هذه الظاهرة. أما بالنسبة الى التيارات التي تسعى الى التأثير على الرأي عبر الوسائل القانونية والسلمية. فهذا من حقها وعلى الدولة مواكبة مثل هذه الأنشطة للتأكد من مدى احترامها للقانون".
الحرب على الارهاب ومخاطر الانزلاق
ومع ان أغلب الأحزاب السياسية خارج الحكم أيدت قرار السلطة ووزارة الداخلية بمنع عقد المؤتمر وبتضييق الخناق على المتشددين الخارجين عن القانون فإن أطراف سياسية أخرى تخشى من ان يؤخذ كثيرون بجريرة هؤلاء المنفلتين ومن ان يوظف الحزب الحاكم ذريعة الارهاب لتصفية خصومه من المتشددين الذي يهددون حكمه، تماما كما حصل في بدايات حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في ثمانينات القرن الماضي الذي لاحق الاسلاميين الذين يمسكون بالسلطة اليوم.
ويرى محمد القوماني أمين عام حزب التنمية والاصلاح والذي يعرف نفسه كحزب إصلاحي ووسطي في لقائه مع DW عربية إن قرار المواجهة قد يكون متسرعا لجهة انه لا يوجد حوار وطني يدعم هذه الخطوة وأكبر خطر يمكن ان يزيد في تغذية الارهاب، حسب رأيه هو عندما تكون الانقسامات السياسية والثقافية داخل المجتمع عميقة، عندها يخشى من ان يتسلل الإرهاب من الجبال إلى المدن وان يوظف في أجندات داخلية وخارجية قد تربك مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد.
لكن من الناحية الاستراتيجية والأمنية تبدو المخاوف أعمق من ذلك. ويتعلق الامر من هذه الزاوية بالأمن القومي لتونس وبمستقبل الدولة والمؤسسات. وتحدث الدكتور مازن الشريف وهو خبير استراتيجي مختص في الشؤون الأمنية والتيارات الاسلامية لـDW عربية قائلا "عندما حدث المزج في الحكم وأصبحت السلطة هي الدولة والحزب هو السلطة بدأت الكوارث تحدث. على الدولة الآن ان تبرز استقلاليتها. لدينا نظام دولة وقانون ولدينا جيش وأمن والمطلوب هو إيقاف اي نوع من الانفلات. وهذا الحكم يكون على الجميع وليس التيار السلفي فقط".
وتابع الشريف "التيار السلفي الجهادي لا يؤمن بالديمقراطية ولا بالدولة ولا بالعلم والنشيد الوطنيين واستراتيجيا على الدولة ان تقنعه بالتي هي أحسن وإذا اختار هذا التيار التصعيد فعلى الدولة ان تفرض هيبتها".
وأرجع الخبير الأمني الاحداث الحالية في تونس والمرتبطة بمؤتمر انصار الشريعة وبأحداث جبل الشعانبي إلى ما سماه بالغباء السياسي للحكام الجدد وغياب الاستراتيجية، وأوضح "بعض السياسيين لا علم لهم بالتخطيط الاستراتيجي ومع ذلك هم يفرضون آراؤهم ويلغون الخبراء والعلماء والكفاءات الأمنية". واستشهد الشريف بحادثة اقتحام السفارة الأمريكية في ايلول/سبتمبر الماضي من قبل محتجين سلفيين ضد شريط براءة المسلمين والتي اوقعت اربعة قتلى والعشرات من الجرحى من بينهم عدد كبير من الأمنيين.