اعتداء ميونيخ.. سيدتان تسعيان لتحقيق العدالة منذ 50 عاما
٣١ أغسطس ٢٠٢٢يبدو أن الوقت والأعوام العديدة لم تؤثر على شقة إيلانا رومانو في تل أبيب فالوقت داخلها يبدو وكأنه توقف عند حقبة السبعينات حيث تنتشر صور بالأبيض والأسود على جدران غرفة المعيشة فيما لا يزال الأثاث نموذجا لما كانت عليه المنازل في إسرائيل خلال تلك الفترة.
بيد أن ما يذكرها بأنها تعيش في عام 2022 يتمثل في شاشة التلفزيون المسطحة.
ويعد أثاث الشقة الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، انعكاسا بشكل رمزي لحياة إيلانا رومانو وأنكي شبيتزر إذ أنه في الخامس من سبتمبر/ أيلول قبل 50 عاما، تغيرت حياتهما جذريا عندما قُتل زوجاهما يوسف وأندريه في الهجوم الإرهابي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأرملتان رمزا للنزاع بين عائلات ضحايا الهجوم والحكومة الألمانية حيال قضية التعويض عن مقتل ذويها في الهجوم.
وإبان الهجوم، كانت إيلانا رومانو وأنكي شبيتزر زوجتين في سن السادسة والعشرين عاما حيث كان طفل شبيتزر الأول قد ولد قبل أشهر قليلة من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ.
وخلال الأعوام الماضية، لم تقتنع الأرملتان بتفسيرات السلطات الألمانية ولم يكن لديهما أي استعداد للتراجع. فقد أمضتا قرابة نصف قرن في جمع المعلومات والتحدث إلى وسائل الإعلام ومحاولة ربط الأحداث لمعرفة ماذا حدث في ذاك اليوم من أجل الحصول على تعويض تراه الأرملتان عادلا لما تعتقدان أنها أخطاء ارتكبتها الحكومة الألمانية.
لم تكن تمتلك إيلانا رومانو وأنكي شبيتزر أي خبرة أو تجربة سابقة أو حتى شبكة اتصالات لإدارة حملات عامة، لكنهما تمتلكان أمرا أكثر قوة ألا وهو التماسك كما جاء في مقابلة حصرية مع DW قبل الذكرى الخمسين لهجوم ميونيخ.
"لم يكن حلما بل واقعا"
تستدعي إيلانا رومانو ذكرى ما حدث في ذاك اليوم، قائلة "كان هناك شخص يطرق على باب الشقة في السابعة صباحا"، مضيفة لقد كانت جارتي تطلب مني تشغيل الراديو بسبب وقوع "هجوم إرهابي".
وقبل سفر زوجها يوسف وهو لاعب رفع اثقال للمشاركة في دورة ميونيخ، عمد إلى طمأنتها بعد أن أبلغته خوفها وقلقها إزاء رحلته حيث أخبرها: "عندما يُقدم الألمان على فعل شيء ما، فإنهم يفعلونه على أكمل وجه".
ولاحقا في نفس اليوم الذي استيقظت فيه على طرقات على باب منزلها، علمت أن زوجها جرى احتجازه رهينة وبحلول الساعة 7 مساء جاءت طرقات أخرى على باب المنزل لتبلغها أن يوسف كان الضحية الثانية في الهجوم الإرهابي.
وقالت "استيقظت في صباح اليوم التالي وتساءلت هل ما حدث هل كان حلما، لكنه كان أمرا واقعا."
"البقاء معا"
في المقابل، كانت أنكي شبيتزر في هولندا، مسقط رأسها، عندما عملت بالهجوم حيث كان زوجها مدرب رياضة المبارزة بالسيف متواجدا في القرية الأولمبية في ميونيخ في ذاك الوقت.
وتروي ما حدث بالقول: "قبل سفري مع طفلي إلى عائلتي (في هولندا)، قصدت ميونيخ لمدة أسبوعين من أجل زيارة أندريه. كان قد مر على زواجنا عام وثلاثة أشهر فقط. كنا نحب بعضنا البعض وتعاهدنا بالبقاء معا".
لكن بسبب مرض الطفل، قرر أندريه السفر إلى هولندا لزيارة طفله قبل عودته إلى القرية الأولمبية في الليلة التي سبقت الهجوم.
وتضيف أنكي شبيتزر: "أيقظني والدي في تمام الساعة السابعة صباحا لإبلاغي بأن هجوما قد وقع"، مشيرة إلى أنه بعد ساعات اكتشفت أن زوجها كان أحد الرهائن حيث رأته حيا للمرة الأخيرة.
فهو كان أحد الرياضيين الإسرائيليين الذين تحدثوا إلى السلطات الألمانية من خلال نافذة في مشهد تناقلته وسائل الإعلام حول العالم وشاهده الملايين.
وتكشف شبيتزر: "أخبرت والديّ أن أندريه سوف يتصل بي بعد أن يُطلق سراحه، لكني لم أتلق هذه المكالمة"، مضيفة أنها تلقت بعد ذلك نبأ مقتل جميع الرهائن الإسرائيليين.
وبنبرة يعتصرها الأسى، تقول: "أتذكر في ذاك اليوم أني عدت إلى ميونيخ وفي طريقي إلى القرية الأولمبية، رأيت رياضيين يتدربون على جانبي الطريق وكأن 11 رياضيا أولمبيا لم يُقتلوا. كان الأمر مروعا."
مرحلة النضال
وبعد شهر من الهجوم الإرهابي في ميونيخ، تعرفت أنكي شبيتزر على إيلانا رومانو وعثرتا على قاسم مشترك بينهما، وهو ما أكدت عليه الأولى بالقول: "كان لدينا نفس الشعور والرغبة في معرفة الحقيقة".
وكانت جمهورية ألمانيا الاتحادية واللجنة الأولمبية الدولية محل الاختصام حيث تضمنت مطالب الأرملتين فتح أرشيف ولاية بافاريا وألمانيا الاتحادية للتحقق مما حدث فضلا عن تأمين الحصول على تعويضات وضمان اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية بالضحايا.
وبعد الانتقال من محكمة إلى أخرى والتحدث إلى سياسيين واحد تلو الآخر، لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق، فيما تقر الوثيقة التي سلمتها السفارة الألمانية في تل أبيب إلى عائلات الضحايا، بمسؤولية ألمانيا عن مقتل الرياضيين.
ووفقا للوثيقة التي أطلعت عليها DW، يجري الحديث عن دفع 5.4 مليون يورو إضافية (5.39 مليون دولار) بالإضافة إلى 4.6 مليون يورو تم دفعها بالفعل.
ورغم ذلك ترغب عائلات الضحايا في أن تصل التعويضات إلى 9 ملايين يورو لكل ضحية حيث يُنظر إلى المبلغ باعتباره رمزيا لأنه أطلق سراح الإرهابيين الذين نجوا من الهجوم بعد اختطاف طائرة الخطوط الجوية الألمانية لوفتهانزا حيث طالب الخاطفون بالإفراج عن الإرهابيين الذين شاركوا في هجوم ميونيخ ومازالوا أحياء مقابل إطلاق سراح الرهائن المحتجزين.
وتقول أنكي شبيتزر "لقد عذبتنا الحكومة الألمانية 50 عاما. لم تتوقف أبدا عن الكذب فضلا عن إذلالنا. نريد فقط معرفة ما حدث لزوجي وللآخرين، لكننا لم نتلق أي أجوبة".
أما إيلانا فتقول "لقد أرادوا تقديم ألمانيا أخرى" وهو ما ردت عليه أنكى بقولها "لم تكن هناك ألمانيا أخرى".
"الأمر يتعلق بما هو أكثر من المال"
ومع المضي قدما في معركة تحقيق العدالة والحصول على تعويضات، قررت أسر ضحايا هجوم ميونيخ مقاطعة الحفل الرسمي في ألمانيا لإحياء الذكرى الخمسين للهجوم فيما تقول اللجنة الأولمبية الإسرائيلية إنها تدعم أسر الضحايا وستنضم إلى حملة المقاطعة.
وترفض أيلانا وأنكي قول البعض في ألمانيا بأن إصرارهما على المضي قدما في قضيتهما مرجعه الجشع.
وفي ذلك، قالت إيلانا رومانو: "المال ليس سوى مال، لكن ما فعلته ألمانيا لنا هو أكثر بكثير من مجرد الحصول على أموال. يتعلق الأمر بأطفال الضحايا الذين عاشوا بدون آباء. لقد أكدنا مرارا وتكرارا أنه رغم أن المجموعة الإرهابية التي قتلت آباءهم هي المسؤولة عن الهجوم، إلا أن هذا لا يعني أن كل الفلسطينيين والعرب يشاركون هذا الأمر".
وأضافت "إننا سعداء بأن أطفالنا قد نشأؤوا دون أي كراهية (تجاه الفلسطينيين)".
اعتراف اللجنة الأولمبية
وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية لم تلب مطالب أيلانا وأنكى، إلا أنهما قد حققا تقدما في أماكن أخرى حيث جرى دعوتهما من قبل رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ شخصيا لحضور دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة في طوكيو.
وفي حدث غير مسبوق جرى إحياء ذكرى الهجوم بالوقوف دقيقة من الصمت للتذكير بضحايا الهجوم الذي وقع منذ ما يقرب من نصف قرن فيما كانت عائلات الضحايا يسعون منذ سنوات للحصول على هذا الاعتراف الرسمي من المنظمة الرياضة.
وتتذكر أنكي شبيتزر هذا اليوم بقولها "لقد صرخت على الفور وناديت على إيلانا. فبعد 49 عاما من الكتابة والحديث والسفر بين أماكن عديدة، نرى إمبراطور اليابان والرئيس الفرنسي يحيون ذكرى أحبائنا في حدث يشاهده الملايين حول العالم".
وترى إيلانا رومانو وأنكي شبيتزر أن الأمر كان بمثابة الحلم فيما توجهها بالشكر إلى رئيس اللجنة الأولمبية الدولية للسماح لهما بمشاهدة مثل هذا الحدث وهما على قيد الحياة.
وردا على سؤال حول مشاعرهما قبل الذكرى السنوية، قالت رومانو إن الحسرة لم تختلف عما كان عليه الوضع قبل وقوع الهجوم، مضيفة "من يقول إن الوقت أن يمثل الشفاء، فيمكني قول عكس هذا".
من جابنها، قالت شبيتزر "كان يتعين علينا النضال لقرابة 49 عاما من أجل نيل التعويض والاعتراف...إنه شعور سريالي".
ويحظى وقوف إيلانا رومانو وأنكي شبيتزر أمام حكومة دولة من أقوى وأغنى بلدان العالم، بالإشادة فيما تعد الصداقة بينهما الدافع الأكبر في نضالهما لتحقيق العدالة لضحايا هجوم ميونيخ.
وعن صداقتها بشبيتزر، قالت رومانو: "لقد دعمتها عندما كانت في حالة غير جيدة وهي فعلت نفس الشيء معي، كنت سعيدة الحظ بالتعرف عليها".
فيليكس تامسوت/ م ع