الثورة المصرية بين محاسبة الجهاز الأمني والحاجة إلى الشرطة
١٠ مارس ٢٠١١ينتقد الناشط الحقوقي ناصر أمين مؤسس اللجنة المصرية للعدالة الانتقالية ما يصفه بتأخر غير مبرر على الإطلاق في بدء إجراءات محاكمة قيادات جهاز أمن الدولة. ويرى أمين في حوار مع دويتشه فيله أن ما أتخذ حتى الآن من "إجراءات يفتقد إلى المعيارية وأقرب لمخططات التهدئة، فالمجلس العسكري تغاضى عن الإسراع في محاسبة القيادات العليا في هذا الجهاز رغم أن صلاحياته الاستثنائية تسمح بذلك"، خاصة وأن تاريخ تلك القيادات منذ بداية حكم مبارك تورطت في جرائم لمصلحة بقاء النظام لا حماية الدولة.
ويقول الناشط الحقوقي إن "هذه القيادات معلومة بالاسم، ويجب التحفظ عليها تأمينا لهم من الانتقام وضمان عدم قيامهم بالعبث بالوثائق" وبحسب أمين فإن إجراءات التحفظ عليهم والتحقيق معهم يجب أن يتم أمام جهات أكثر استقلالية من جهاز التحقيقات الجنائية العادي، فـ"الجهاز الأخير غير مستقل وشاب أداءه خلال 30 عاماً من حكم الطوارئ تدخلات سافرة من السلطة التنفيذية، "ما يطرح مبادرة العدالة الانتقالية حلاً لتلك الأزمة، فهي هيئة مدنية ذات مكون قضائي مستقل لا يخضع للنائب العام، ومهمته ضمان تحقيقات نزيهة ومستقلة".
حوار وشيك
ويلمح أمين إلى أن من المقرر إجراء حوار مع الدكتور يحيي الجمل، نائب رئيس الوزراء الحالي، قريباً لعرض المبادرة عليه، من أجل بحث إمكانية قيام حكومة تسيير الأعمال الحالية بتبن هذه المبادرة وإصدار قرار وزاري بشأنها، "لأن تأخير إجراء محاكمة هؤلاء المسؤولين ينبأ بسيناريو فوضي واغتيالات بناء علي خبرات سابقة لدول مرت بفترة انتقالية بين عصرين، حيث ستحاول فلول تلك الأجهزة إجهاض أي محاسبة بضربات انتقامية قد تصل إلى معارضين ونشطاء ومسؤولين تنفيذيين، ناهيك عن تخريبها وطمسها للأدلة في غيبة الحزم اللازم"، كما يرى الناشط الحقوقي.
صراع داخل المؤسسة العسكرية
ويعزو أمين تباطؤ القيادة العسكرية في محاكمة القيادات الأمنية السابقة في مصر إلى انقسامها بين خيارين، أولهما انهيار جهاز الشرطة بمجمله، وهو ما يتطلب تطمينات تسمح له باستعادة نشاطه، والثاني ضرورة الإسراع بمحاكمة قياداته مما يعطل الأمر الأول. ويرى أن الجيش عليه "حسم خياره من الاستقرار المؤقت إلى الاستقرار الدائم، فالأخير يضمن تهدئة الشارع والشرطة معاً"، فالشارع سيضمن المحاسبة والشرطة ستضمن العودة دون انتقام بعد أن وضحت معيارية المحاسبة، خاصة وأن قطاعات الشرطة نفسها عانت من تسلط جهاز أمن الدولة عليها.
أرشيف الأمن... أرشيف الشعب
المستشارة تهاني الجبالي نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، ترى أن جزءا من مسؤوليات المجلس العسكري كانت الحفاظ علي مستندات جهاز أمن الدولة، وذلك "عبر إجراءات احترازية تتضمن السيطرة علي أرشيف الوثائق والتحفظ علي قياداته، فما توفر في مقراته هي أدوات المحاسبة وإعادة البناء ولا يمكن تركها للفورات الفردية، هي وثائق ملك الشعب المصري، وهو نفسه ما سيضمن عدالة المحاسبة".
وتشير الخبيرة القضائية إلى أنه في عام 1968 خرج المصريون رفضاً لما اعتبروه محاكمة صورية لقيادات الهزيمة، وذلك في عز سطوة عبد الناصر، "والآن من الضروري أن تتم المحاسبة بشفافية وعبر جهات مستقلة". وتؤكد الجبالي أن القضاء المصري، الذي كشفت الوثائق تورطت بعض عناصره في فساد الجهاز الأمني، "سيتطهر مثله مثل قطاعات أخرى جرى فرزها في أتون الثورة، ففي جميع أنحاء العالم كشفت الثورات وحاسبت كل الأطياف التي تسترت علي فساد الاستبداد".
وتوضح الخبيرة القضائية أن "الجسد العام للقضاء المصري لازال بخير، بدليل حملة التطهير التي تشمله الآن ونزوع جزؤه الأعم إلى الاستقلال عن تبعية الجهات التنفيذية، سيضمن محاكم عادلة لجهاز أمن الدولة تضمن عدم تجزئة المسؤولية بين قياداته وعناصره الوسيطة"، الأمر الذي سيقود في النهاية إلى ضمان استعادة المجتمع الثقة في قضاته.
قبل أن يتحول "الأمن" إلي عصابة خاصة
أما الباحث التاريخي شريف يونس فيقلل من دور الأجهزة العامة في محاسبة الفترة الماضية، بل يري الحل في مشاركة الجماعات الناشطة التي أفرزتها الثورة في المحاسبة. ويعزو يونس ذلك إلى أن "التنافس بين العسكر والأمن وأن الفاصل بينهما خيط رفيع سيمنع كشف مجمل الحقائق، وبقايا الجهاز الأمني ستحاول منع أي مصالحة بين الشرطة والمجتمع لأن ذلك ضد مصالحها".
ويربط يونس ين عودة الشرطة للمجال العام ومساهمة المجتمع المدني في ذلك، فمؤسسات أهلية ونشطاء حقوقيون تتعاون مع غير الفاسدين من الشرطة الآن هو الضمانة لصياغة عقد مجتمعي جديد بين الطرفين، "فجهاز الشرطة بطبيعته يريد العودة للشارع بشروط ما قبل الثورة، ويشجع هذا التصور تغلغل ثقافة أمن الدولة بين كل قطاعاته، فهو تاريخياً أفسد وتحكم وتسلط على باقي القطاعات شبه المدنية في الشرطة".
ويرى الباحث التاريخي أنه ليس أمام القيادة السياسية ممثلة في مجلس الوزراء أو زير الداخلية إلا التعاون مع مبادرات المجتمع في هذا الإطار، "فالمؤكد أن الوزير الجديد أيا كانت إمكاناته سيواجه مؤامرات داخلية عند تفكيك جهاز أمن الدولة، والإطاحة الفورية بقيادات هذا الجهاز القمعي". وهذا يزيد من مخاوف سيناريو تحول كبار ضباطه إلى عصابات ذات أجندة خاصة. ويوضح يونس أن لدى الوزير الجديد سلطة قراراته الإدارية التي ستشجع شرفاء الشرطة على ملئ الفراغ ومبادرات المجتمع المدني لإنجاز مهمة العودة للشارع.
ميثاق شرف شرطي مواطني
الناشط السياسي تامر الميهي أسس مع مجموعة من زملاءه "المجموعة المدنية لمراقبة جهاز الشرطة"، وهي مجموعة متمخضة من فعليات الثورة. يحدد الميهي هدفين لرابطته، الأول متابعة الانتهاكات الفردية والمنظمة لجهاز الشرطة، والثاني إعادة هيكلة الشرطة في علاقته بالمجتمع، وقد تشكلت من الرابطة لجان فرعية تتفاعل مع أطراف من الشرطة والمجتمع المدني لتطوير الحوار وآليات تلك الرقابة. وخلال الأيام القليلة القادمة سيلتقي ممثلو المجموعة بعناصر من جماعة "ضباط الشرطة الشرفاء" الذين أطلقوا بيانا تضمن الاعتذار لشهداء الثورة وطرق تفعيل عودتهم للشارع.
ويحاول الميهي إذابة ما اسماه بالميراث المؤسسي لجهاز أعتاد عناصره في تأهيلهم الأكاديمي التسلط، مشيراً إلى أن خطوات جماعته تستهدف كسر الارتباط التسلطي الذي سمح لمثل هذا الجهاز بالتحكم في مجمل أنشطة الشرطة. وفي هذا الإطار اختارت أحد أقسام الشرطة في القاهرة نموذجاً، وسيتوجه إليه النشطاء للحوار مع ضباطه حول العودة للعمل بمشاركة اللجان الشعبية ونشطاء حقوقيون. وبحسب الميهي فإن هناك تجربتان لهذا النموذج يجري تطبيقهما في الإسكندرية وبورسعيد، كما أن المجموعة ستطلق خلال أيام "ميثاق شرف الشرطة"، كدليل إرشادي على العلاقة الواجبة بين الشرطي والمواطن بما يكفل للطرفين مناخ قانوني واضح المعالم، يقطع الطريق أمام الشرطة للعودة إلي سابق عهدها، ويقطع الطريق أمام أي أعمال انتقامية ضدهم من قبل المواطنين.
هاني درويش- القاهرة
مراجعة: عماد م. غانم