الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني واستحقاقات الديمقراطية
أعاد الخلاف الحاد حول الإشارة إلى الجذور المسيحية لأوروبا في أول دستور أوروبي تم صياغته بعد سنوات طويلة من المشاورات والنقاشات الحامية الوطيس إشكالية العلاقة بين الدين والدولة إلى بؤرة الحدث السياسي. فبالرغم من أن الدستور الألماني لا يشير إلى الدين إلا أن تأثير الديانة المسيحية يبقي حاضراً من خلال الحزب الديمقراطي المسيحي الذي يمثل التيار المحافظ في الطيف السياسي الألماني.كما أن الخلاف بين الدول الأوروبية حول الإشارة إلى الجذور المسيحية-اليهودية لأوروبا يُظهر صعوبة التوصل إلى صيغة مشتركة لآلية فصل الدين عن الدولة. فالدول الأوروبية التي تعيش فيها أغلبية كاثوليكية مثل بولندا وإيطاليا ومعها أحزاب المعارضة المسيحية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، أصرت على الإشارة إلى الدين المسيحي كجزء لا يتجزأ من الهوية الأوروبية.
الدين والدولة في ألمانيا
تعطي ألمانيا مثالاً وسطياً للعلاقة المثيرة للجدل بين الدين والدولة. فالدستور الألماني المعادي للفاشية والقائم علي ضمان الحرية والديمقراطية يتعاطى بصورة متوازنة مع دور الديانة المسيحية كمرجعية قيمية وأخلاقية، إلا أنه يرفض التدخل المباشر للمؤسسات الدينية في العملية السياسية الألمانية. ولكن ذلك لا يعني أن تأثير الدين المسيحي، الكاثوليكي منه والبروتوستناتي على حد سواء، غير المباشر على السياسة الألمانية لا يمر عبر الدور الذي يلعبه الدين في عملية اتخاذ القرار السياسي. فممثلو الكنائس على سبيل المثال يحاولون من داخل المنظومة الحزبية اقناع الأحزاب القريبة منهم فكرياً وسياسياً بتبني تصوارتهم، لأن الدستور الألماني يضمن للأحزاب السياسية الأولوية العليا في "صياغة إرادة الشعب". كما أنه يمكن للقوى الدينية كونها جزءاً من قوى المجتمع المدني التأثير على الرأي العام ودفعه إلى تأييد موقف معين مما يضمن لهذه القوى تأثيراً فاعلاً على العملية السياسية الديمقراطية.
المسيحية كورقة جذب للناخبين
يًعرف الحزب الديمقراطي المسيحي نفسه بأنه حزب"يملك مفهوماً سياسياً قائماً على الديانة والقيم المسيحية وعلى مسؤولية الفرد أمام الله"، ويشدد في مقدمة قانونه الأساسي على أنه حزب ديمقراطي ليبرالي ومحافظ يلتزم بجذور أوروبا التاريخية. ولكن هذا التعريف الذاتي لا يمنعه من تبني سياسيات تتناقض كلياً مع "هويته المسيحية" والاتجاهات السائدة لدى الكنائس الألمانية. فهو يؤيد على سبيل المثال استخدام تقنية استنساخ الأجنة التي ترفضها الكنائس لأنها تمس بـ"كرامة الأجنة"، وبرنامجه الاقتصادي لا يراعي واجب مد يد العون إلى الفقراء والعاطلين عن العمل وفقاً للتصورات الكاثوليكية. كما أنه أيد موقف الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على العراق قبل أكثر من عامين.هذا التعامل الانتقائي مع "القيم المسيحية" دفع الكثير من المتدينين المسيحيين إلى مطالبته بالتخلي عن صفة "المسيحية" في اسمه، لأنه يستخدمها كواجهة لااستقطاب للناخبين المحافظين، على حد تعبير هؤلاء النقاد.
تدين مواكب لاستحقاقات الحداثة
بالرغم من صعوبة تحديد مدى تأثير العامل الديني على العملية السياسية الألمانية على أرض الواقع، إلا أن الحزب الديمقراطي المسيحي نجح في الحفاظ على نوع من التدين المعتدل وعلى ثقله السياسي بصفته أحد الركائز السياسية للمنظومة السياسية الألمانية دون التخلي عن أهداف وروح الدستور الألماني الذي يستند على الميثاق الأممي لحقوق الإنسان. فالتحدي الكبير الذي يواجه كل حزب ديني يريد المشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي تحت غطاء دستوري يكمن في حل المعضلة المتمثلة في الحفاظ على الإجماع الديمقراطي العام الذي يلتزم بضرورة الفصل بين الدين كقوة تميل إلى الشمولية في حال غياب مرجعية دستورية تضمن حرية العمل السياسي للآخرين، وبين الحفاظ على مبادئه الأساسية القائمة على "مرجعيته الدينية".
الحزب الديمقراطي المسيحي و"الإسلاميون الجدد"
تجربة الحزب الديمقراطي الألماني تطرح أسئلة حول إمكانية الاحتذاء به من قبل الحركات الإسلامية المعتدلة التي بدأت في الظهور في إطار جديد. فمن خلال تجربتها في التعامل مع نظام الدولة المتسلط تكونت لدى بعضها تصورات عقلانية وسطية بأن "الديمقراطية النيابية" واحترام حقوق الإنسان الأساسية هما الطريق الأفضل المؤدي إلى تفعيلها كقوة ناشطة في المجتمع المدني. وفي هذا السياق يتساءل أخصائي العلوم السياسية المصري الدكتور عمر حمزاوي حول مغزى الحوار مع الجماعات الإسلامية المعتدلة قائلاً:"كثيرا ما يتهرب الغرب من السؤال المتعلق، بالحوار مع الجماعات الإسلامية: هل ينبغي التحاور معهم، أو هل سيتم ضم هذه الجماعات إلى عملية الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط؟ لا بد للمثقفين والسياسيين الأوروبيين والأمريكيين أن يسألوا أنفسهم، عما إذا كان عزل هذه الجماعات التي يعد دورها على درجة كبيرة من الأهمية في مسار عملية الديمقراطية في الشرق الأوسط، له آثار سلبية على المدى البعيد".
لؤي المدهون