الراين – نهر الرومانسية
٧ أغسطس ٢٠١٣سُحِر الشاعر الانكليزي لورد بايرون عند رؤية أطلال قلعة جبل دراخينفيلز( جبل صخرة التنين) عام 1816، فأمسك قلمه في الحال لنظم أبيات الشِّعر الشهيرة (صخرة راسخة على جبل دراخينفيلز). أطلق بايرون مع أبياته العنان لتدفق شِّعري مُفعم بحب الطبيعة، حتى أنه شجَّع من خلالها سياحة الراين. وكتب مرة بكل شغف، بأنه يُفضّل قضاء حياته متجولاً في محيط البرج المكلل للجبل.
يُسلّط مُتحف (الجبال السبعة) في منطقة كونيغسفينتر الهادئة والمسالمة في مدينة بون الألمانية الضوء على هذه الحقبة الرومانسية، ويُتيح الفرصة لإحياء افتتان الرومانسيين مجدداً بالنهر الأكثر شهرة في ألمانيا. ويقوم بناء هذا المتحف في مكان اُختيرَ بعناية، فمن ينزل من القطار يشاهد كيف يبرز جبل دراخينفيلز وحصنه في السماء بكل جلال.
لوحة ساحرة
لم يمر بقلعة جبل دراخينفيلز الشعراء فقط، من أمثال هاينريش هايني وكليمينس برينتانو و جوزيف فون آيشيندورف، بل وصلها أيضاً العديد من الرسامين لاستكشاف النهر ومناظره الطبيعية المختلفة الساحرة ورسمها في لوحاتهم. إذ جذب تنوع المنطقة الفنانين، فمن ناحية المشهد الخلاب الذي يفسح المجال للرسامين لرسمه بأجمل صوره، ومن جهة أخرى فعاليات وأنشطة الناس، التي تشهد عليها القلاع.
وقد بُنيت هذه القلاع في العصور الوسطى، كتحصينات عسكرية بمحاذاة الطريق التجاري المفضَّل، ولكن بمرور بضعة قرون أصبحت بلا جدوى. فتقنيات الأسلحة الحديثة جعلتها فائضة عن الحاجة، خاصة مع عدم صلاحيتها كمكان سكن. إنه لمن المدهش وجود بقايا منها، فقد استُخدِمت كمقلع للحجر، لبناء الكنائس على سبيل المثال. و تنتمي أحجار كاتدرائية مدينة كولونيا أيضاً إلى الراين، فقد استُخرج الحجر الرمادي المُسمى (دراخيت) من جبل دراخينفيلز وأُرسِل إلى مدينة كولونيا حتى القرن التاسع عشر.
تقديس الأطلال وحماية الطبيعة
أشبعت الأطلال المترامية بمحاذاة الراين رغبة الرومانسيين المتوقدة لصياغة فنونهم وإبداعاتهم. كما كانت هذه الأطلال بالطبع تشكل رموزاً ودلالاتٍ سياسية مُرحباً بها لخدمة الشعور الوطني والقومي المتفتح في القرن التاسع عشر.
لقد حفَّزت عذرية الطبيعة الفنانين من جهة، وكذلك مظاهر التمدن والتقدم على ضفاف النهر من جهة أخرى،
فعلى سبيل المثال، أنجز يوهانيس ياكوب ديتسلر لوحة تبدو للوهلة الأولى رسماً متقناً لحياة ريفية هادئة، ولكن من يُمعن النظر بدقة، يكتشف أن الرسام لم يهتم فقط بالمنظر الطبيعي الجميل، بل أبرز أيضاً البنية التحتية الحديثة، إذ رسم سفينة بخارية تعبر الراين، وكروم العنب على الضفتين، وعربة تجرها الأحصنة تنقل المسافرين إلى النهر.
خيال الرومانسيين الجامح
تمتع الرومانسيون بالكثير من الخيال، وبالغوا في وصف الطبيعة وأضافوا إليها الكثير. وهكذا نشأت أيضاً أسطورة لوريلاي الشهيرة، فلم تكن لوريلاي قبل القرن التاسع عشر سوى صخور شديدة الانحدار في منطقة سانت غوارهاوزين بالقرب من مدينة كوبلينز، وكان العبور في المجرى المائي خطيراً بسبب المياه الضحلة،التي تسببت بالعديد من الحوادث المؤسفة للسفن. تحطم السفن أوحى للمرة الأولى عام 1801 بأسطورة حورية البحر، التي جلست على الصخور هناك لتسريح شعرها الذهبي ، وحطّمت السفن بغناء تعويذتها.
ووصف كليمينس برينتانو في قصيدته الدرامية (باخاراخ المطلة على الراين) ساحرة من ريف هذه المدينة، وحتى ذلك الوقت لم تلعب صخرة لوريلاي أي دور مطلقاً، لكن في بداية عشرينات القرن التاسع عشر سلّط الشاعر الألماني الكبير، هاينريش هايني، الضوء مجدداً على حكاية لوريلاي وأفسح مكاناً لأسطورة حورية باخاراخ على الصخرة لتسريح شعرها، ومعها أصبحت الأسطورة متقنة. وبصورة مشابهة صدرت ملحمة سيغفريد، قاتل التنين، للمرة الأولى في القرن الثامن عشر، وهي خيالٌ بحت.
مرتعٌ خصب للذكريات
لوحات مناظر الراين للرسام السويسري، لودفيش بلويلير، أظهرت التناقض بين الحُلم والحقيقة، فمثلاً يُظهر مشهد من مدينة ماينتس حديقة عامة يتجول فيها العديد من المُتنزِّهين، وقاطرة تسير عبرها، لكن في الواقع تم لاحقاً، بعد وفاة بلويلير بثلاثة أعوام، افتتاح خط للسكة الحديدية على الجانب الأيسر للراين.
لم تُغيِّر التقنية المتقدمة صورة الراين فقط، بل طوَّرت السياحة أيضاً، وذلك بمساعدة البنية التحتية الجيدة، إذ تدفق آلاف السياح إلى المنطقة في نهاية عشرينات القرن التاسع عشر. وساهم تسيير السفن البخارية في جعل الرحلات ذات أسعار معقولة، الأمر الذي دفع أهالي مدينة كونيغزهاوسيس الانكليزية إلى زيارة النهر ذي المجد والسيرة الحميدة.
وصلت شعبية الراين نهاية القرن التاسع عشر إلى ذروتها في المجال الفني، لكن في القرن العشرين حلت الرحلات البعيدة محل سياحة نهر الراين.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال جبل دراخينفيلز البالغ ارتفاعه 350 متراً، يحظى بالعدد الأكبر من الزوّار، بالمقارنة مع جبال أوروبا قاطبة.