"الرشاح القاتل" يروي عطش أهالي قرية مصرية بـ"الفشل الكلوي"
٢٤ أغسطس ٢٠١٣أمام جهاز الغسيل الكلوى بمركز الإسراء بقرية أم دينار في الجيزة، تمدد الطفلة دنيا عبدالله، التي لم يتجاوز عمرها أصابع اليدين، جسدها انتظارا لتركيب خراطيم الغسيل الكلوى. وعلى السرير المجاور، يلقى محمود حجازى، شاب في الخامسة والعشرين، جسده النحيف الذي غطته الخراطيم المتشعبة، على سرير متهالك. محمود، الذي سلم أمره لقضاء الله، لا يعرف السبب وراء إصابته بالفشل الكلوى في هذه السن الصغيرة، إلا أن جميع أهالى القرية يعلمون ما يجهله الشاب المريض، فكثرة الحالات المصابة في قريته والقرى المحيطة تؤكد أن مياه الشرب والمحاصيل التي يتم ريها بمياه الصرف الصحى وراء انتشار المرض.
كشفت جولة لكاتب المقال داخل قرى مجاورة في الجيزة، عن وجود مجرى مائي لمياه الصرف الصحى والصرف الصناعي الزارعي، يمتد ما يقرب من 120 كيلومتراً، أطلق عليه الأهالي لقب "الرشاح القاتل"، بسبب تصديره السموم والأمراض للإنسان، ويصب مباشرة في مياه نهر النيل في قرية الرهاوى بمحافظة الجيزة.
نقص المياه النظيفة رغم القرب من النيل
خلال جولتنا، تابعنا الرشاح الذي ينبع من منطقة العياط ويمر بعدة قرى وينتهى بصرف 19 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحى يوميا في مياه النيل، بالمخالفة لقانون حماية النيل، الذي يلزم الحكومة بمعالجة المياه وتنقيتها قبل صرفها في النيل.
ورصدنا التقاء مياه الصرف الصحى بنهر النيل عند قرية الرهاوي، حيث طلبت منا مجموعة من النساء سرعة اتخاذ الخطوات لإنقاذهن من هذا الرشاح الذي تسبب في انتشار الأمراض في منطقتهن، بينما شاهدنا استحمام طفلة صغيرة في مياه الرشاح، قالت لنا أمها: "وماذا أفعل؟ لا توجد مياه نظيفة، والجميع يستغل هذه المياه، فنحن نزرع ونسقى منها."
ويعلق سالم إبراهيم، صاحب مزرعة للموز بالمنطقة: "من يملك تكلفة حفر ماسورة للمياه الجوفية يسقى منها أرضه، ومن لا يستطع يعتمد على مياه الرشاح، لأن حفر ماسورة للمياه مسألة مكلفة للغاية".
ويتابع حسن الهوارى: "الأهالى أقاموا محطة مياه بالجهود الذاتية وحفروا بئراً، لكن مياه البئر بسبب اقترابها من المصرف اختلطت بمياه الصرف مما جعلها ملوثة، وهو ما دفعنا لتقديم شكوى لمحافظ الجيزة السابق، الذي أرسل لجنة للمعاينة على أرض الواقع وبعد أن حددوا موقعاً آخر غير الموقع الحالى لمحطة المياه، فوجئنا بعد ذلك بحفر بئر أخرى بنفس مكان البئر القديمة بجانب المصرف، مما فاقم المشكلة ولم يحلها".
واستنكر الحاج مطاوع عبدالمجيد عدم توفر مصدر مياه، حيث إن المركز قريب من فرع رشيد (أحد فرعي نهر النيل في مصر)، "ما يعني أن المياه متوفرة وقريبة منا، لكن الأهالي محرومون منها".
حملنا ما قاله سكان القرى المحيطة بالرشاح، إلى فتحى أحمد، رئيس الجمعية الزراعية بأم دينار، حيث قال: "كان من المفترض أن يُستكمل مشروع ترعة مياه نظيفة من فرع رشيد لمجموعة قرى المناشي، إلا أن هذا المشروع متوقف منذ عشر سنوات كاملة، وقمت بالشكوى أكثر من مرة لمحافظ الجيزة ووزارتى الري والزراعة، لكن لا أحد يتحرك".
منطقة بلا خدمات طبية
ويشير بندارى جمعة، الموظف بالوحدة الصحية بالقرية إلى مشكلة أخرى، وهي قلة وحدات الغسيل الكلوي في المنطقة، رغم كثرة نسبة الإصابات بالمرض، ويضيف: "أم دينار تقع وسط عدد من القرى، يبلغ تعدادها السكانى أكثر من 150 ألف نسمة، والمؤلم أن هذه الكثافة السكنية لا تتمتع بأى خدمة طبية، رغم وجود مستشفى عام، لكنها بلا خدمات، بل لا توجد مجرد سيارة إسعاف واحدة، فلو أن واحداً أصيب بحالة طارئة، نضطر لأخذه في سيارات خاصة وغير مجهزة مما يتسبب في الوفاة في كثير من الأحيان".
وبالإضافة إلى صعوبة رحلة البحث عن مياه نظيفة، تبدو رحلة العلاج أشد قسوة، وتروي نجلاء والدة الطفلة دينا عبدالله باكية: "أصيبت ابنتى منذ أربع سنوات بالفشل الكلوى، ولم يكن أهالى القرية أنشأوا هذه الوحدة للغسيل الكلوى، فكنت أحمل ابنتى في الرابعة فجرا ثلاث مرات في الأسبوع لأذهب عبر رحلة طويلة ومنهكة لى ولطفلتى إلى قصر العينى، حيث وحدة الغسيل الكلوى، ولا أعود إلا في الثامنة ليلا".
وتواصل: "الفشل الكلوى صار في قريتنا شيئاً روتينياً، وكانت رحمة الله بى حينما تدخل أهالى الخير من قريتنا وأنشأوا مركز الإسراء للغسيل الكلوى، فمريض الفشل الكلوى بمركز المناشى ليس أمامه إلا مستشفي الحميات بإمبابة، وهناك أعداد مهولة ولا أستطيع الحصول على سرير وجهاز، ما يدفعنى للسفر ساعة كاملة لمستشفى القصر العينى، وزادت المشقة بعد أن عجزت ابنتى عن المشى، وهى الآن مصابة بقرحة الفراش، لأننا لا نقدر على شراء مرتبة تفريغ هواء".
مرضى يبحثون عن مكان علاج
ويقول عماد حلمى، المشرف على مركز الإسراء للغسيل الكلوى بالقرية: "انتشار الأمراض في منطقة المناشي دفع الأهالى إلى جمع الأموال والتبرعات لإنشاء مركز للغسيل الكلوى، وبفضل الله ثم بفضل بعض أهالى الخير استطعنا توفير ثماني أجهزة للغسيل الكلوى، يعالج بها عدد كبير من المرضى، ونرفض أعداداً أخرى، ليس لدينا الإمكانيات لعلاجها"، ويحكى عماد أنه استقبل منذ ثلاثة أشهر طفلة في الخامسة من عمرها "إلا أننا رفضنا دخولها، لأن المركز ليس به الخدمات والأدوات اللازمة لأنها لا تتوفر سوى بمستشفى القصر العينى، ولم يتمكن أهالى الطفلة من الذهاب بها فتوفيت".
ومن مركز الإسراء الخاص إلى مستشفي حميات إمبابة، لا يختلف المشهد كثيرا. يقول الدكتور سمير عنتر، نائب مدير المستشفي، المشرف على وحدة الغسيل الكلوى: "نعالج يوميا مئتي مريض، من خلال أجهزة الغسيل الكلوى، وتأتينا مئات الطلبات، لكننا نرفضها بسبب عدم توفر أسرة لهم". ويضيف: "مياه الصرف الصحى تحتوى على بكتيريا كثيرة جداً تسبب أمراضاً عديدة، مثل السالمونيلا التي تؤدى إلى الإصابة بمرض التيفود والنزلات المعوية، وبكتيريا اللبتوسبيرا التي تسبب أمراض التهابات الكبد والكلى والجهاز العصبى المركزى وغيرها".
وطالب عنتر وزارة الصحة بسرعة توفير عدد أكبر من أجهزة الغسيل الكلوى بمستشفي الحميات، لأنه يخدم عدداً كبيراً من المحافظات.
خسائر مادية فادحة
وبالإضافة إلى الأمراض وخسائر الأرواح التي يسببها شاح الرهاوي لأهالي المنطقة، هناك أيضاً خسائر مادية كبيرة، خاصة بالنسبة لصيادى المنطقة، فتلوث مياه فرع رشيد قضى على الأسماك والكائنات الحية في النهر. وفي هذا السياق، يقول هانى السنوسي المحامي المتحدث باسم رابطة صيادى النيل: " بالإضافة إلى المصانع التي تصرف مخلفاتها في النيل مباشرة، يمثل رشاح الرهاوي الضربة القاضية للثروة السمكية، لأنه يبث في كل لحظة سموماً قاتلة في مياه النيل، وقد أخذنا عدداً من العينات من الأسماك إلى معامل بحوث ومعامل تحاليل وأثبتت تعرضها لمواد سامة"، ويضيف أن عدداً كبيراً من الصيادين يضطر إلى بيع هذه الأسماك الملوثة، نظراً "للحاجة والفقر".
ويؤكد الدكتور حسام عزالدين، بمعهد بحوث الحيوان بمركز البحوث الزراعية، أن مصرف الرهاوى به صرف زراعي يحتوى على بقايا الأسمدة والمبيدات الزراعية، بالإضافة إلى العناصر الثقيلة الناتجة عن الصرف الصناعي مثل الرصاص والكادميوم والسلينيوم والتريتيوم والزنك، التي تؤدي إلى نفوق كميات كثيرة من الأسماك. ويضيف: "نظرا لتراكم هذه المخلفات على مدى السنوات الماضية أصبح التأثير السام للمصرف طوال العام، مما أدى إلى نفوق نسبة كبيرة من الثروة السمكية بالنهر، وحتى الأسماك الموجودة تعتبر غير صالحة للتناول بسبب معيشتها في بيئة ملوثة ومسمومة".
"نقص الموارد وراء تأخر حل المشكلة"
ورداً على الاتهامات بالتقاعس عن حل هذه المشكلة، قال الدكتور على عبدالرحمن، محافظ الجيزة، إن سبب تأخير حل هذه المشكلة هو نقص الموارد المالية، حيث يحتاج الأمر إلى مشروع ضخم يكلف الدولة مليارات الجنيهات.
في المقابل قال ضياء الدين القوصى، خبير المياه، مستشار وزير الرى الأسبق، إن الحكومة ليس أمامها إلا حلان، الأول هو إنشاء محطات معالجة لتنقية المياه بطول مصرف الرهاوى، ومعالجة المياه معالجة جيدة، ثم صرفها في النيل، والحل الثانى هو فصل الشبكات، لكي يظل الماء النظيف في مواسير أو ترع خاصة به ومن ثم استخدامه في الرى والزراعة، والماء الملوث في شبكات خاصة به، مضيفاً: "أما ما يحدث الآن فهو خلط الماء النظيف بالماء الملوث.
ويكمل: «أهالى منطقة الرهاوى معرضون لحالات تسمم في أى وقت، لأن مواسير المياه الارتوازية يجب ألا تقل عن 70 متراً، وإلا فستكون مثقلة بالبكتيريا والطفيليات وعناصر سامة، تسبب عدداً من الأمراض كالفشل الكلوى والتهاب الكبد الوبائى أو ظهور حالات تسمم".
هذه نسخة مختصرة من التقرير الذي نشر لأول مرة في جريدة المصري اليوم، والذي كان أحد المقالات المرشحة للفوز بجائزة الإعلام الألمانية لقضايا التنمية وحقوق الإنسان.