السلطات تتستر على الخطر: هواء ملوث في مدن الاتحاد الأوروبي!
٢٠ أكتوبر ٢٠٢٤من قمم جبال فيتوشا، يمكن رؤية العاصمة البلغارية صوفيا باتجاه الشمال حيث تقع في سهل واسع عند سفح الجبال. هذا، على الأقل، من الناحية النظرية. فعلياً، تختفي صوفيا غالباً تحت غطاء كثيف من الضباب الدخاني. يعود السبب في ذلك إلى آلاف المركبات القديمة التي تعمل بالديزل وتطلق كميات هائلة من العوادم الملوثة والسامة.
ويضاف إلى ذلك في الشتاء الدخان المنبعث من مواقد التدفئة التي تُحرق فيها الفحم، وأحياناً حتى النفايات. كل هذا يجعل صوفيا واحدة من المدن الأوروبية الأسوأ في معدلات تلوث الهواء.
لكن رسمياً، لا يبدو أن هذه المشكلة موجودة. حيث تشير القياسات الرسمية لنسبة أكسيد النيتروجين السام (NO₂) إلى أنها غالباً ما تكون أقل من الحد الأقصى الذي يحدده الاتحاد الأوروبي بمقدار 40 ميكروغراماً لكل متر مكعب من الهواء. وبذلك يظهر تلوث الهواء في صوفيا على الورق على أنه منخفض نسبياً.
ولكن تقريراً صدر عن منظمة البيئة البلغارية "زا زيمياتا" في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أظهر أن السلطات تتعمد إخفاء حجم تلوث الهواء. إذ تُجرى قياسات جودة الهواء في صوفيا في مواقع لا تعكس الواقع الحقيقي للتلوث.
على سبيل المثال، تقع محطة قياس رسمية في حديقة خلف الأشجار، على بعد 65 متراً من شارع رئيسي. ويقول إيفايو هليباروف من منظمة البيئة البلغارية: "تقدم هذه المحطات بيانات منذ سنوات تضمن أن صوفيا تبدو وكأنها تلتزم بالحدود القانونية لأكسيد النيتروجين".
لكن قياسات المنظمة على الطرق والشوارع المزدحمة أظهرت مستويات تلوث تقارب الضعف عن القيم الرسمية. وترى المنظمة أن التستر على تلوث الهواء من قبل السلطات "يقترب من كونه جريمة في مجال الصحة العامة".
التلوث الحقيقي أعلى من القيم الرسمية بمرتين أحياناً
ليست صوفيا وحدها التي تعاني من هذا التعتيم؛ فحجم تلوث الهواء يتم التلاعب به في العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك بلغاريا، هنغاريا، التشيك، سلوفاكيا، كوسوفو، ورومانيا.
وقد أثبتت ذلك نتائج القياسات التي أجرتها سبع منظمات بيئية بين عامي 2022 و2024 في 64 موقعاً إضافياً، حيث أظهرت قياسات هذه المواقع مستويات أعلى بكثير من تركيز ثاني أكسيد النيتروجين (NO₂) مما تدعيه السلطات. ففي 55 موقعاً، تم قياس تركيزات NO₂ تتجاوز بشكل واضح الحد الأقصى السنوي الذي أقره الاتحاد الأوروبي منذ أكثر من 14 عاماً، والبالغ 40 ميكروغراماً لكل متر مكعب.
في بريشتينا عاصمة كوسوفو، كانت الأرقام الرسمية نصف تلك التي سجلتها المنظمات البيئية. وفي صوفيا عاصمة بلغاريا كانت أقل بنسبة 47٪، وفي بودابست في هنغاريا بنسبة 43٪، وفي براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا بنسبة 27٪، وفي بوخارست في رومانيا بنسبة 24٪ مقارنة بقياسات المنظمات البيئية.
تلوث مرتفع في وسط وجنوب شرق أوروبا
تأتي انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين بشكل أساسي من سيارات الديزل التي تفتقر إلى أجهزة تنقية كافية. فقد تلاعب مصنعو السيارات بالقيم لفترات طويلة، وظهر ذلك علناً في فضيحة الديزل منذ عام 2015، بدايةً من شركة فولكسفاغن ثم شركات أخرى.
في الواقع، السيارات التي بيعت كسيارات جديدة حتى عام 2020 لا تلتزم بمعايير الاتحاد الأوروبي للحد من الانبعاثات على الطرقات الأوروبية ولم يتم تحديثها من قبل المصنعين.
تنتج سيارات الديزل القديمة في المتوسط حوالي خمسة أضعاف مستويات ثاني أكسيد النيتروجين المحددة من قبل الاتحاد الأوروبي. وهذا يؤثر بشكل خاص على سكان وسط وجنوب شرق أوروبا، حيث تسير العديد من سيارات الديزل القديمة على الطرقات.
في بريشتينا، عاصمة كوسوفو، يقول أربن ليلا من مركز "كوسوفو للدعوة والتنمية": "نعاني من جودة الهواء في بريشتينا بسبب الاستخدام الكثيف لسيارات الديزل، مما يؤدي إلى مستويات NO₂ تتجاوز حدود منظمة الصحة العالمية والاتحاد الأوروبي."
الدول ملزمة بحماية صحة المواطنين
يُعدّ أكسيد النيتروجين غازاً ساماً مهيجاً يمكن أن يتسبب في أضرار لخلايا الرئة وأعضاء أخرى، ويؤدي إلى عمليات التهابية في الجسم ، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية مثل النوبات القلبية، وقد يسبب أيضاً مرض السكري.
وتقدّر الوكالة الأوروبية للبيئة أن حوالي 140,000 شخص يموتون سنوياً في الاتحاد الأوروبي بسبب التلوث الناتج عن أكسيد النيتروجين.
ولتوفير الحماية للسكان، تُحدد حدود قصوى لتركيز أكسيد النيتروجين في الهواء. توصي منظمة الصحة العالمية منذ عام 2021 بحد أقصى قدره عشرة ميكروغرامات من NO₂ لكل متر مكعب من الهواء، بعد أن كان الحد الموصى به سابقاً 40 ميكروغراماً لكل متر مكعب. من المفترض أن يتم الالتزام بهذا الحد قانونياً في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2010.
يجب على جميع دول الاتحاد الأوروبي مراقبة مستويات جودة الهواء في المناطق ذات التلوث العالي وإبلاغ الجهات الأوروبية بهذه البيانات. وفي حال تجاوز حد الـ 40 ميكروغراماً من NO₂، تُلزم الدول باتخاذ تدابير لخفض الانبعاثات وحماية المواطنين.
اعتباراً من عام 2030، من المقرر أن يتم خفض الحد المسموح به في الاتحاد الأوروبي إلى 20 ميكروغراماً من NO₂ لكل متر مكعب، وفقاً لقرار صادر عن البرلمان الأوروبي.
"السلطات تعتقد أنها دائماً على حق"
إدارة الإعلام في المفوضية الأوروبية، بناءً على طلب من DW، أجابت بأنها على علم بأن المنظمات البيئية في بعض البلدان وجدت تركيزات أعلى من NO₂ في الهواء مقارنة بالقياسات الرسمية.
وتسعى المفوضية الأوروبية ووكالة البيئة الأوروبية "من خلال الحوار مع السلطات الوطنية" لضمان وضع أجهزة القياس الرسمية في المواقع ذات "أعلى تركيز للملوثات الجوية" وتوضيح "أسباب الفروقات".
لكن المسؤولية عن دقة النتائج تقع على عاتق دول الاتحاد الأوروبي. وقالت المتحدثة باسم المفوضية: "تمتلك الدول الوسائل اللازمة لمعالجة المشكلة إذا كانت المخاوف مبررة."
في بلغاريا، ذكر إيفايو هليباروف من منظمة "زا زيمياتا" أن السلطات لم ترد علناً حتى الآن على تقارير منظمته. وقال: "في بعض الحالات التي واجهناهم فيها بنتائج قياساتنا، قيل لنا إن قياساتنا غير مناسبة كقيم مرجعية."
وأضاف هليباروف: "يبدو أن السلطات تعتقد أنها دائماً على حق، لكن هذا ليس صحيحاً في كثير من الأحيان. يجب أن تكون أكثر انفتاحاً. وإذا لم يكن هناك إرادة سياسية لذلك، فلا يوجد أمامنا سوى زيادة الضغط."
إلزام الشركات المصنعة بتحديث سيارات الديزل
تجري في ألمانيا حالياً محاكمات تهدف إلى الإسراع في تحديث سيارات الديزل لتقليل انبعاثات الملوثات. يقول يورغن ريش، المدير التنفيذي لمنظمة المساعدة البيئية الألمانية DUH: "يجب أن تُحدّث سيارات الديزل الملوثة والمعدّلة على نفقة المصنعين، ويمنع تصديرها للخارج".
تعمل DUH منذ سنوات على حماية جودة الهواء في أوروبا، وكانت أيضاً من المشاركين في الدراسة الحالية.
رفعت المنظمة بالفعل عدة دعاوى قضائية لإجبار المصنعين على تحديث سيارات الديزل. وفي قضية نموذجية، حصلت في بداية عام 2024 على حكم من المحكمة الإدارية في مدينة شليسفيغ، يقضي بعدم السماح بتشغيل 62 طرازاً من سيارات الديزل التابعة لشركات فولكسفاغن، أودي، وسيات على الطرق بسبب عدم كفاية تنقية العوادم.
لكن شركة فولكسفاغن والهيئة الألمانية المسؤولة عن اعتماد السيارات، هيئة السيارات الفيدرالية، استأنفتا الحكم. ومن المتوقع أن تستمر هذه القضية لفترة أطول، حيث قد تؤثر على تحديث ملايين سيارات الديزل من شركات أخرى في الاتحاد الأوروبي أيضاً.
أعده للعربية : عباس الخشالي