الشاعر الألماني غوتفريد بِنّ يشرّح الإنسان طبيّاً ولغوياً
٢٣ يناير ٢٠٠٦في عمله المسرحي التجريبي "الصوت من خلف الستارة" (Die Stimme hinter dem Vorhang ) يجعل الشاعر والناثر الألماني غوتفريد بِنّ Gottfried Benn إحدى شخصياته تشكو من أن الإنسان مصمم بطريقة تبدو معها كما لو أن كلّ ما يفعله سيكون محكوماً بالفشل لا محالة، فهو "عاجز عن إيقاف الحروب، وعاجز عن إقامة نظام اجتماعي عادل، وإذا ما بدأ التفكير، فإن تفكيره سرعان ما يتحوّل إلى مأساة". ويُرجع الشاعر والطبيب المتخصص في الأمراض التناسلية غوتفريد بِن مأساة الإنسان الحديث إلى تركيبته العضوية بالدرجة الأساسية والتي لا تُتيح له إمعان النظر حتى في هذه المأساة، لأن غريزة البقاء الكامنة فيه تجعله يقتنع بكل شيء، بل يخضع له دون أدنى مقاومة. بيد أن الإنسان من وجهة نظر غوتفريد بِن كائن انثروبولوجي خاضع لظروف بيئية وثقافية تحدد في نهاية المطاف مساحته الفكرية والذهنية.
المولد والنشأة
ولد غوتفريد بِن عام 1886 بناحية مانسفِلد القريبة من مدينة آيزليبن، حيث ولد ماترين لوثر المصلح الديني المعروف. كان والده قسيساً بروتستانتياً، فدرس بِن في البدء الفلسفة واللاهوت، قبل أن ينتقل إلى دراسة الطبّ بمدينة برلين، حيث أقام وتوفّي هناك عام 1956. وينتمي بن إلى طائفة من المبدعين الألمان أبناء القساوسية الذين تمردوا على آبائهم وعلى الدين معاً ومنهم لِسنغ وهِيردر وجان باول الذي أعلن موت الله مطلع القرن التاسع عشر وكذلك فريدريخ نيشته الذي تناول هذه الموضوعة بتفصيل شديد فيما بعد. وكان غوتفريد بِن، شأنه شأن العديد من الأدباء الألمان في القرن العشرين قدّ تأثر بأفكار نيتشه، إلا أنه كان ينتقد الروح المثالية وأحياناً التفاؤلية التي تغلب عليها مثلما تشير مواعظ زَرادشت ذات اليوتوبيا المسطحة، على حدّ تعبير بِن.
صدمة الحداثة
ورغم تمرده الظاهر على تعاليم نيتشه، فإنه وقع تحت تأثير العدمية المطلقة وروح التطيّر والقلق التي تركت آثارها واضحة على النتاج الفكري والأدبي الألماني في مطلع القرن العشرين، قرن الحداثة بامتياز. وقد رافقته هذه النزعة العدمية حتّى آواخر حياته. فكتب ذات مرّة معبراً عن إحساس ابن المدينة الحديثة: يا لها من مسرحية قرود! فكلما نزلت إلى الشارع ترى أصحاب المطاعم يتمنون لك الجوع والعطش وأطباء الأسنان يتمنون أن تلهتب لثّتك ورقاعي الأحذية يتمنون أن يتمزّق حذاؤك ورجال الدين يعدونك بالجحيم، والعاملين في القضاء يصرخون مطالبين بارتكاب الجرائم، فهؤلاء كلّهم يريدون أن يلعبوا أدوراً كبيرة!
كان بِن قد صدم الوسط الأدبي بقصائده الأولى التي وضعها تحت عنوان "معرض الجثث" Morgue التي استهلها بقصيدته الشهيرة التي شكلّت علامة تاريخية في تطور الشعر الألماني"زهرة الأسطر الصغيرة" Kleiner Aster ذات الجوّ السوداوي الجنائزي على نحو مرعب. فبِن يتحدث هنا عن سائق عربة توزيع البيرة مات غرقاً وقد حشر أحد ما زهرة أسطر ليْلكية اللون بين أسنانه. وعندما أمسك مشّرح الجثث بسكين طويلة قطع بها أضلاع الصدر ثم الحنك واللسان ارتطم بالزهرة الصغيرة فسقطت فوق المخّ الملقى جانباً، فوضعها في التجويف البطني بين القطن الطبّي عندما أخذوا يخيطون جسده ثم خاطب الطبيب الزهرة: "إرتوي في مزهريتك مطمئنة، يا زهرة الأسطر!"
تجاوز العدم
إن قصائد بِنّ المبكرة تعبر بلا شكّ عن أحاسيس الإنسان المندحر، المأزوم، الوجودي والعدمي والخالي من الأوهام، وقد صاغها بلغة باردة برودة الفولاذ. وأراد من خلال ذلك أن يتجاوز حالة العدم عبر الحقيقة الوحيدة المتاحة أمامه والمتمثلة حسب اعتقاده بالإبداع الفنّي الخلاّق بغية تحويل اليأس إلى طاقة جمالية تفجّر الحواس الإنسانية فتملأها بكلّ ما هو حسّي أرضي. لكنه لا يحقق انتصاره على العدم إلا عبر التجاوز الواعي للذات واختراق كينونة الإنسان وتحطيم الهياكل التقليدية للغة وقدسيتها وأنساقها المألوفة، ليس على مستوى الجملة أو العبارة الشعرية، بل على مستوى المفردة الواحدة أيضاً. فكان بنّ يركّب أحياناً مفردات ألمانية قديمة ويخلطها بكلمات فرنسية وإغريقية ثم يصوغها في توليفة برلينية: مفردات نحتت من البيولوجيا وعلم الأجناس والتشخيصات السريرية والعمليات الجراحية، فيهبها إيقاعاً صوتياً صارماً في جدته، ينطوي على معان مرهفة "تحفّز الأدمغة وتثيرها وتكسرها وتدميها فتجلعها خلاّقة مبدعة" على حد قول الشاعر نفسه.
وصدرت مجموعة المشرحة عام 1912 أي قبل عشرة أعوام من نشر توماس إليوت قصيدة "الأرض اليباب" التي أحتفي بها باعتبارها المحطة الأولى للحداثة الشعرية.
بين التشريح والتجريب
حاول بِنّ هنا أن يمزج بين ثلاثة تيّارات أدبية- فلسفية على أقل تقدير وهي المدرسة الطبيعية التي بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة مطلع القرن العشرين بعد أن استنفد آرنو هولتس وغيرهارد هوبتمان وتوماس مان معظم طاقتها، والمدرسة التعبيرية التي لم تكن قد أفصحت عن ملامحها بعد إلا من خلال الكتابات الأولى لروبرت موزيل وكازيمير أدشمدت والوجودية التي لم تكن تحوّلت بعد إلى منهج فلسفي وحياتي ثابت. وبهذا المعنى فإن بنّ أصبح من روّاد الحداثة في القرن العشرين إن لم يكن من أهم مؤسسيها، هذه الحداثة التي اتسمت بالدقة التشريحية الجراحية إلي استأصل بها بن ترهلات اللغة، وإحاطتها بما هو أسطوري ميتافيزيقي عبر صياغة الألم الإنساني بمعرفة عضوية مدهشة، إضافة إلى الرؤية الفلسفية المكتنفة بالجرأة والغموض الجمالي. ورغم أن غوتفريد بِنّ شرّح جسد الإنسان طولاً وعرضاً مثلما فعل في "زهرة الأسطر" و "المصران الأعور" و "الطبيب" وغيرها من القصائد المعروفة، إلا أنّه لم يعثر في نهاية بحثه على أي أثر للروح، مما جعل يأسه يزداد حدّة وقتامة، فاتخذت قصائده المتأخرة تنحو منحى جنائزياً قدرياً. عاش بِنّ حياة مضطربة، خطرة، واشتغل طبيباً ميدانياً في الحربين العالميتين، وقرر البقاء في ألمانيا في وقت غادر فيه أغلبية الكتّاب والفنانين والمثقفين الألمان وطنهم إبّان الحكم النازي. لكن أعمال بِنّ منعت عام 1936 بأمر من وزير الدعاية غوبلز شخصياً، ثم سحبت منه رخصة عيادته الخاصة، فأصبح في حالة من العوز المادي والعزلة حتى بعد الحرب التي حطمت منزله وتسببت في انتحار زوجته.
حسين الموزاني