الفرصة الأخيرة لإنقاذ العراق
٢٥ نوفمبر ٢٠٠٨سيكون يوم الأربعاء القادم 26/11/2008 يوماً حاسماً في تاريخ العراق الحديث، ففيه سيصوت البرلمان العراقي على الاتفاقية الأمنية مع أمريكا، لتمريرها أو رفضها. وقرار البرلمان هذا سيضع العراق عند مفترق الطرق، إما في اتجاه الصومال ليصبح ساحة للحروب الأهلية بقيادة لوردات الحروب، ليتمزق إلى كانتونات طائفية وعرقية متصارعة، منها شبه مستقلة مثل كردستان، ومنها طائفية محتلة من قبل دول الجوار، وإمارات بعثية وإسلامية وهابية، أو في اتجاه دولة عصرية تحث الخطى نحو استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار وبناء النظام الديمقراطي، والمباشرة بالإعمار والازدهار الاقتصادي، أي دولة المواطنة الحقيقية المزدهرة المستقرة ينعم فيها جميع أبنائه، بدون أي شكل من أشكال التمييز.
في هذا اليوم سيكشف السياسيون العراقيون فيما إذا كانوا قد بلغوا سن الرشد، أم مازالوا يراوحون في سن المراهقة السياسية، يساهمون مع أعدائهم في تدمير بلاهم؟ وهل سيتغلب هؤلاء السياسيون على صراعاتهم الثانوية والجانبية لتغليب المصلحة الوطنية على مصالحهم الأنانية والفئوية، أم يحصل العكس وليكون من بعده الطوفان؟
ونظراً لما أصاب العراق من كوارث على أيدي حكامه منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى اليوم، وصفت في بعض مداخلاتي بعض السياسيين العراقيين بالمراهقين، وقد عاتبني صديق على ذلك، فأشرت إليه بما جرى طوال تاريخ العراق، وما حصل قبل أيام في البرلمان العراقي إثناء حضور وزير الخارجية السيد هوشيار زيباري لمناقشة بنود الاتفاقية، حيث قام عدد غير قليل من النواب والنائبات بإحداث الهرج والمرج والصياح والضرب على مكاتبهم والتشابك بالأيدي، من أجل منع المناقشة، وبالتالي منع تمرير الاتفاقية. فقلت لصاحبي إن لم يكن هذا السلوك مراهقة سياسية فما هي المراهقة إذنْ؟ لا ننكر أن هناك عدد غير قليل من السياسيين العراقيين الناضجين وبينهم حكماء نجلهم ونكن لهم كل الاحترام، ولكن، ونقولها بألم، أن هؤلاء أقلية، لا حول لهم ولا قوة وسط هذا الزحام من المراهقين السياسيين.
وكما قال الأستاذ عدنان حسين في صحيفة (أوان) الكويتية أن : "أشد المعارضين للاتفاقية هم البعثيون.. البعثيون القدامى، وهم فلول نظام صدام الذين يعملون، تارة باسم «التوافق»، وأخرى باسم «الحوار»، وغيرهما.. والبعثيون الجدد، وهم أتباع مقتدى الصدر، الذين تشكّل العناصر الشيعية، من صغار أعضاء حزب البعث وجلادي الأمن والمخابرات في عهد صدام، أغلبيتهم الساحقة."
طبعاً لم يكتف هؤلاء البعثيون القدامى المتسترون بمختلف التنظيمات السياسية وبأسماء دينية بما فعلوه في البرلمان، بل استغلوا دور العبادة لتحريض الجماهير الفقيرة البائسة ضد هذه الاتفاقية، فبعد صلاة كل يوم جمعة يخرجون في مظاهرات صاخبة لهذا الغرض. والملاحظ أن معظم الأعلام العراقية التي يحملها المتظاهرين هي أعلام عهد حكم البحث ذات النجمات الثلاث، لا شك أن الإصرار على رفع هذه الأعلام لا يخلو من دلالة.
ومن المؤسف القول أن هناك البعض من التيارات السياسية الوطنية العلمانية، ورغم مواقفها السليمة السابقة من أمريكا وتحرير العراق، إلا إنها وبدوافع خلافاتها الجانبية مع حكومة المالكي، ولأغراض ومصالح فئوية، صمموا على عدم تمرير الاتفاقية نكاية بالمالكي، غير آبهين بالمخاطر الجسيمة التي سيتعرض لها العراق نتيجة لهذا الموقف الخطير. يحاول هؤلاء تبرير موقفهم الخاطئ تحت مختلف الحجج الواهية مثل أنهم لم يطلعوا على الاتفاقية إلا في وقت متأخر، وأنهم يريدون إعطاءهم الوقت الكافي لدراسة الاتفاقية وأنهم يبحثون عن بديل أفضل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ولذلك فهم يقترحون تجديد قرار مجلس الأمن بشرعنة الاحتلال لسنة أخرى!!
إن الادعاء بعدم الاطلاع على مسودات الاتفاقية غير صحيح، لأنها كانت تنشر على مواقع الانترنت وفي الصحف الورقية منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر في العام الماضي، وآخر صيغة لها بعد إجراء جميع التعديلات النهائية التي اقترحتها القوى السياسية، نشرت قبل أيام في صحيفة الصباح البغدادية.
أما قولهم بأنهم يبحثون عن البديل الأفضل، فهو الآخر لا يخلو من مغالطة بل ومغامرة بمستقبل البلاد والعباد. نقول لهؤلاء أنه أولاً، ليس هناك أي ضمان أن إدارة أوباما الجديدة ستحقق لهم بديلاً أفضل، خاصة وأنه وعد الناخبين بالانسحاب الفوري من العراق. وثانياً، ليس هناك ضمان أن روسيا سوف لن تستخدم حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن لمنع تجديد بقاء القوات الدولية في العراق، وثالثا، وحتى في حالة حصول التجديد، أيهما أفضل للعراق، شرعنة الاحتلال وتمديده عاماً آخر مع فقدان السيادة الوطنية ورهان ثرواته، أو توقيع اتفاقية تضمن السيادة الوطنية وتزيل مخاطر احتمالات البديل الأسوأ؟
التعكز على السيادة الوطنية
قبل نشر الصيغة الأخيرة النهائية للاتفاقية، كان معظم المعارضين لها يرفضونها بحجة حرصهم على السيادة الوطنية. وعندما تأكدوا أن ليس في الاتفاقية ما يسيء لمصلحة العراق أو سيادته الوطنية، لجئوا إلى الطعن بها بقولهم (وماذا عن سيادة العراق ومصالحه ما قبل الاتفاقية؟ ولماذا لم تنتبه أمريكا إلى هذه المصالح إلا الآن؟) أيها السادة أن الاتفاقية تخص فترة البدء بتطبيقها، وليس ما حصل قبل ذلك التاريخ، هذه هي طبيعة الاتفاقيات المبرمة بين الدول في كل زمان ومكان. لذلك نعتقد أن هذه الحجج دليل إفلاسهم الفكري ومحاولاتهم المستميتة لعرقلة العملية السياسية وتحت واجهة الحرص على المصالح والسيادة الوطنية. أما البكاء على ما أصاب العراق من أضرار منذ سقوط الفاشية، فمعظم هذه الأضرار حصلت على أيدي فلول البعث وحلفائهم الإرهابيين من أتباع القاعدة وبدعم من إيران وسوريا. والغرض الرئيسي من هذه الاتفاقية هو إيقاف هذه الأضرار والجرائم وإلحاق الهزيمة بالإرهابيين والدول التي ترعاهم، لذلك فأية عرقلة لتمرير هذه الاتفاقية تصب في صالح أعداء العراق.
فمن قراءاتي المتكررة لمسوداتها المختلفة توصلت إلى قناعة تامة إلى أن الاتفاقية هي في صالح العراق أكثر مما هي في صالح أمريكا، وأنها شرط مهم من شروط بقاء العراق كدولة عصرية، وبدونها سيكون العراق في مهب الريح. وهذه القناعة تأكدت اليوم بشهادة الخبراء المختصين بأمن واستقرار العراق، ومنهم وزيريْ الدفاع والداخلية اللذان صرحا في مؤتمر صحفي لهما، حسب تقرير صحيفة (الشرق الأوسط) ليوم 23/11/2008، نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية، جاء فيه: «أريد أن أوضح لماذا تؤيد وزارة الدفاع الاتفاقية»، موضحا أن «الاتفاقية هي خطة انسحاب مبرمج مع توقيتات زمنية محددة تؤمن انسحاب القوات العسكرية وتسلم المواقع الأمنية بشكل آمن للعراقيين». وأضاف «بعيدا عن الطرح السياسي، اعتقد أن الاتفاقية ستفتح فرصا تاريخية أمام العراق»، وتابع الوزير أن «انسحابا مفاجئا سيتوجب أن نعلن حالة طوارئ»، مشيرا إلى أن «الجيش بشكل خاص وصل إلى قدرات ممتازة، لكن نحتاج إلى وقت فلا نزال نحتاج إلى تطوير في منظومة الإدارة والسيطرة والإسناد الجوي». مؤكداً أن «أي انسحاب مفاجئ من الخليج العربي وهو محمي حاليا من قبل قوات التحالف سيحوله الى خليج عدن الذي وقعت فيه حتى الآن 95 حالة قرصنة».
فماذا يريد المناهضون والمتشككون بالاتفاقية أكثر من هذه الأدلة الدامغة ليقتنعوا بضرورتها لسلامة العراق؟
والجدير بالذكر أن أصحاب نظرية المؤامرة من العرب راحوا يلعبون على عدة حبال، فمن جهة يحذرون العراق من أمريكا ولكنهم في نفس الوقت يخافون من الطغيان الإيراني على المنطقة، فيروجون من الآن في حالة تمرير الاتفاقية في البرلمان أن هناك صفقة سرية بين أمريكا وإيران لتمرير الاتفاقية مقابل مشاركة إيران في حكم العراق. هذا الكلام هو الآخر واه وهراء، لأن أتباع مقتدى الصدر البعثيين في جيش المهدي، هم الرتل الخامس لإيران في العراق، وهم كما بينا أعلاه، يخرجون بعد كل صلاة جمعة بمظاهرات احتجاج صاخبة ضد الاتفاقية، وهذا دليل على استمرار معاداة إيران للاتفاقية، وإلا لأمرت إيران جيش المهدي والتيار الصدري بإيقاف هذه المظاهرات الاحتجاجية.
مخاطر عدم تمرير الاتفاقية
1- احتمال الانسحاب الفوري وما يترتب عليه من إغراق العراق في فوضى عارمة،
2- انفراد الأحزاب الدينية بالسلطة وفرض نظام الدولة الدينية وإلغاء الديمقراطية،
3- وقوع حروب أهلية شاملة، خاصة وإن البنى التحتية لهذه الحروب أصبحت جاهزة، مليشيات حزبية طائفية، مجالس الصحوة (مليشيات العشائر السنية)، مجالس الإسناد (مليشيات العشائر الشيعية)، قوات البيشمركة التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى جيش نظامي لحماية المنطقة الكردية،
4- إلغاء الديمقراطية وإعلان حكم عسكري لفرض الأمن،
5- تحويل العراق وخاصة الوسط والجنوب إلى مستعمرة إيرانية، بحجة حماية الشيعة والعتبات المقدسة،
6- تحويل المثلث السني إلى إمارة إسلامية طالبانية، أو احتلال سوري أو سعودي بحجة حماية السنة العرب،
7- كما أشار وزير الدفاع، تحويل الخليج إلى ما يشبه خليج عدن، ساحة للقراصنة،
8- إعلان استقلال كردستان وتوقيع اتفاقية استراتيجية بين الدولة الكردية وأمريكا، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية دائمة في كردستان لحماية الدولة الكردية الوليدة ومصالح أمريكا في المنطقة،
9- ستكون العلاقة بين دولة كردستان وما تبقى من دولة العراق، في حالة بقاء العراق العربي كدولة، مثل العلاقة بين باكستان والهند، أي علاقة عداء وحروب مستمرة، خاصة وأن كركوك تمثل كشمير، إضافة إلى مناطق عديدة أخرى متنازع عليها بين الطرفين مثل خانقين وبدرة وجصان وغيرها،
10- احتمال وقوع حروب بين الدويلات العراقية الوليدة حول المناطق الحدودية بينها،
ليس بالضرورة وقوع كل هذه الكوارث دفعة واحدة أو بين عشية وضحاها في حالة عدم تمرير الاتفاقية وانسحاب القوات الأمريكية من العراق، بل ستحصل على مراحل وبتدهور الوضع بشكل متواصل.
خلاصة القول، ولهذه الأسباب مجتمعة، نهيب بجميع الشرفاء من العقلاء من أصحاب الحل والعقد، من أعضاء البرلمان العراقي وقادة الكتل السياسية والمثقفين، أن يعيدوا النظر في مواقفهم من الاتفاقية، ويتغلبوا على صراعاتهم الجانبية وخلافاتهم مع حكومة المالكي، ويفضلوا المصالح الوطنية على المصالح الذاتية والفئوية، فالمسألة لا تخص المالكي وحكومته فقط، بل تخص مصلحة العراق ومستقبل شعبه وأجياله القادمة. وبدون إبرام هذه الاتفاقية سيكون مصير العراق الدمار الشامل.
23/11/2008
l