جولة في العاصمة المصرية القاهرة
٣٠ نوفمبر ٢٠١٩مع الدعاء بألا أفقد أعصابي في منتصف الطريق، توجهت بخطوتي الأولى نحو النفق. هيمن عليّ شعور جارف من السوريالية بسبب شجاعتي في جو من الرهبة لدخول هرم خفرع ثاني أكبر أهرامات الجيزة بطول 136 مترا. أشعر برقة الهواء وأن درجة الحرارة ترتفع بشكل ملموس في الممر الضيق بطول 54 مترًا، والذي ينتهي بحجرة للدفن ذات إضاءة خافتة. هنا لم أحاول التفكير في الكتل الحجرية التي لا حصر لها، بل في إلقاء نظرة إعجاب على تابوت الجرانيت الصلب. بعدها أخذت نفسا عميقا لتحدي العودة إلى ضوء النهار مجددا.
ثلاثة أجيال وثلاثة أهرامات
حقيقة ألقيت نظرة على أهرامات الجيزة في الليلة السابقة، عندما كنت أشاهد عروض بالصوت والضوء. الإضاءة والرسوم المتحركة الهيروغليفية وأصوات الرواة ترددت في الصحراء. ساعة مرت سريعا من سحر قصص الفراعنة وعائلاتهم وأدواتهم. في إطار إخلاصهم الكبير للعديد من آلهة مصر القديمة قامت 30 أسرة على مدار ثلاثة آلاف سنة (3100 قبل الميلاد - 332 ميلادية) ببناء الأهرامات والمعابد والمقابر في أنحاء البلاد.
خلال حكم الأسرة الرابعة في مصر القديمة بنيت أضخم وأشهر أهرامات في العالم مع تصميم مربع في الأساس وأسطح ناعمة في القمة. بدأ الملك الفرعوني خوفو مشروع أول وأكبر أهرامات الجيزة تبعه ابنه خفرع ببناء هرم أصغر مشابه انتهاءً بهرم حفيده منقرع. منذ ذلك الحين تقف هذه الأهرامات الثلاثة الشهيرة في الجيزة على بعد حوالي 15 كم من وسط القاهرة لتذكرنا بثلاثة أجيال في المملكة القديمة.
في ظل الهرم الأكبر
مدينة الجيزة الحديثة (وهي جزء من القاهرة الكبرى) باتت أقرب من الأهرامات الثلاثة، فقط الطرق شديدة الازدحام هي التي تفصل المدينة المترامية الأطراف عن تلك الصحراء حول الأهرامات حيث يتحرك البشر كالنمل. السيارات والأتوبيسات في كل مكان، والناس على الجمال والخيول تتجه إلى المعالم السياحية العظيمة الثلاثة المدرجة على لائحة اليونسكو كموقع تراث عالمي. إنه ذورة الفصل السياحي في مصر بالنظر إلى أعداد السياح الذين يحيطون بك. انحرفت عن الزحام إلى أن وصلت إلى ظل الهرم الأكبر (المعروف بهرم خوفو) حيث استراحة ممتعة من الشمس المصرية القاسية. ارتفاع البناء يصل إلى 139 مترا (456 قدما) في السماء. اتأمل في الكتل الحجرية الضخمة المصنوعة من الحجر الجيري والجرانيت المتراصة إلى ما لا نهاية فوق بعضها البعض.
يقال إن الهرم بني بأكثر من مليوني قطعة من تلك الأحجار. تركت يدي تنزلق فوق إحدى الكتل الحجرية الملساء وتخيلت كيف تم استخراجها في المحجر ونقلها إلى هنا عبر نهر النيل. منذ أكثر من 4600 عام انتهى بناء هرم خوفو وتم تغطيته بالكامل بطبقة من الجير الأبيض. اليوم لم تعد تلك الطبقة البيضاء موجودة، لذلك يجب على الزائرين تخيل روعة هذا المبنى الذي لايزال مثيرا للإعجاب.
في الساعات القادمة، تعلمت أن جميع الأهرامات كانت مقابر للفراعنة مجهزة بكل شيء للسفر إلى الحياة الأخرى. في مصر القديمة، كان البشر يعتقدون أن السماء الزرقاء كانت بحرًا يتم عبوره بعد الموت من أجل العيش إلى الأبد، وبالتالي هؤلاء الفراعنة يحتاجون إلى سفن. وجرى حفر خمس حفر طويلة كان من المعروف أنها تحتوي على قوارب يستخدمها الملك خوفو خلال حياته.
هذه السفينة عثر عليها في عام 1954 وأعيد ترميمها بـ 1.224 قطعة خشبية سيتم عرضها في المتحف الكبير المتاخم للأهرامات الذي سيتم افتتاحه العام المقبل كما تقول الحكومة المصرية. هكذا يمكن للزائرين تخيل كيف كان المصريون قديما يخططون لدفن موتاهم.
السياحة تضررت من ثورات المصريين
بعد صباح ممتع في الجيزة، اتجهت إلى ميدان التحرير وسط القاهرة والذي كان معقل المتظاهرين خلال ثورة 25 يناير عام 2011 التي قادت للإطاحة بالرئيس المصري محمد حسني مبارك من منصبه. منذ ذلك الحين اكتسب ميدان التحرير شهرته التي يمكن الشعور بها حتى اليوم.
في ساحة الميدان تسود الحياة اليومية من ناحية، ومن ناحية أخرى يقوم رجال الشرطة المدججين بالسلاح بدوريات فيه على مدار الساعة. هكذا الحال في مناطق الجذب السياحي. يوجد العديد من الاحتياطات الأمنية مثل تفتيش السيارات وأجهزة الكشف عن المعادن وقوات خاصة وكاميرات مراقبة أيضا، لكنني أشعر بالأمان مع ناس ودودين ومرشدين سياحيين يساعدونك للتغلب على حاجز اللغة ويشعروني بمزيد من الأمان.
يشرح المرشد السياحي محمد سمارة، البالغ من العمر 35 عامًا تاريخ مصر الحديث لي: "لم نشهد ثورة في عام 2011 فحسب، بل في عام 2013 كانت هناك واحدة أيضًا. كان لكل منهما تأثير قوي على السياحة. وخلال هذه الفترة، لم يأت سوى عدد قليل من الزوار إلى هنا، أي حوالي 3 إلى 4 ملايين. لمدة ثلاث سنوات لم أتمكن من العمل في السياحة، لكن كان علي كسب أموالي من عمل آخر كموظف في خدمة العملاء، والآن عاد الحال إلى ما كان عليه. كل عام نستقبل حوالي 14 مليون سائح"، يبدي محمد ثقته في المستقبل. حاليا، الزوار الألمان والفرنسيين هم الذين يقضون عطلاتهم في مصر، لكن عدد الزوار الصينيين في تزايد. محمد شغوف بعمله كمرشد سياحي ويحب بلده. درس التاريخ وكان مرشدًا سياحيًا باللغة الإنجليزية منذ عام 2007. كما كان دائمًا يحلم بهذا العمل كوظيفة له.
الذهب والمومياوات
وعلى بعد خطوات من ميدان التحرير ستجد نفسك أمام المتحف المصري الشهير والذي يحتوي على حوالي 120.000 قطعة للعرض. اخذني محمد من غرفة إلى أخرى، لمشاهدة القطع الفنية، والتي تحكي قصصا وتوضح رموزا. ومررنا بتمثال عاجي صغير لخوفو، ولوحة نارمر والتي تعد أشهر اللوحات الفنية في العالم، ومثالا مبهرا لبدايات نقش اللغة الهيروغليفية على صخور الطمي المتحجر، بالإضافة لمشاهدتنا تحف فنية اخرى يعود عمرها إلى آلاف السنيين.
أستطيع أن أعدّد ما رأيته في صالات العرض الأخرى، لكن أودّ ان ألقي بالضوء على التحف ذات الصِّلة بالملك الفرعوني توت عنخ آمون وهو أحد أفراد الأسرة الثامنة عشرة التي حكمت مصر على مدار عشر سنوات. توفي هذا الملك بعمر التاسعة عشر، إلا أن شهرته الحقيقية ظهرت بعد وفاته. ففي نوفمبر 1922 اكتشف عالم الآثار البريطاني توارد كارتر مقبرته المحفوظة تماما في وادي الملوك بمدينة الأقصر، والتي كانت تحتوي على قناع توت عنخ آمون المصنوع من الذهب الخالص والذي بلغ وزنه عشرة كيلو جرامات والمعروضة حاليا بالمتحف المصري. فما كان مني إلا أن أنظر برهبة لتلك المعروضات المليئة بالذهب والفضة والأحجار الغالية.
هكذا أخذت أتجول من صالة لأخرى، حتى ظننت أنني شاهدت كل المعروضات، حتى وجدتني أقف امام أجداد توت عنخ آمون؛ يويا وزوجته تويا. تسبب مظهرهما المحفوظ جيدا من هندام الشعر لمظهر الشفايف والأظافر وعظام الوجنتين بسريان قشعريرة في عمودي الفقري. فقد تم اكتشاف مومياء كل منهما في حالة جيدة جدا، والتي تشير إليّ جودة عملية التحنيط، هذا الطقس المصري القديم والذي يتم على مدار 70 يوما، وبشكل منهجي ليبتدي بنزع المخ ويمتد لسائر الأعضاء الداخلية، ثم فرك جسد المتوفي بنبيذ النخيل والروائح العطرية. لتاتي بعد ذلك مرحلة استخدام الصوديوم لسحب المياه من الجسم ، وأخيرا لف الأجسام المحنطة من الرأس إلى أخمص القدمين في ضمادات (شاش طبي).
صخب سوق خان الخليلي
بعد يوم مليء بالمعلومات، أصبح لدي رغبة بعدم القيام بأي شيء سوى الغرق في تيه أسواق خان الخليلي. هذا السوق الذي يرجع تاريخ تأسيسه لأواخر القرن الرابع عشر، ويعد واجهة جاذبة للسياح. هنا مركز جذب عدد هائل من السياح في أجواء من بساطة لغة الدعاية التي يقوم بها الباعة لترويج بضاعتهم. وهناك وجدت لفائف ورق البردي، وسجاد يدوية الصنع، وأكواب مرمر وتوابل عطرية.
يتيح هذا المكان إظهار قدراتك في المساومة على الأسعار مع الباعة حول كل شيء من الأدوية وحتى الملابس. وأظن أنني كنت مستعدة لذلك وإنني أبليت بشكل حسن، وبعيدا عن مخاوفي على ما في جيوبي، إلا أنني شعرت بأمان وراحة وسط السياح الذين يتحدثون الانجليزية والمواطنون الذين يتحدثون العربية.
عندما وصلت للقاهرة لاحظت على الفور كم هي مزدحمة ومليئة بالضوضاء، هناك اصطدمت بسحابة الغبار الصحراوي التي تحيط بالجو، وصوت الآذان الذي ينطلق خمس مرات من المآذن واختناق الشوارع في ساعة الذروة. وعلى الرغم من أن زيارة تلك المدينة مرهق إلا أنها مبهجة للغاية، لأن هناك الكثير من الخبرات التي يمكنك أن تكتسبها من خلال الزيارة.
في مسافة زمنية قصيرة، استطعت أن أرى غروب الشمس على نهر النيل من نافذة غرفتي، واستمعت بزيارة غصت بها في عمق الأهرامات والتقيت وجها لوجه مع المومياوات، وغمرت نفسي في حياة المدينة المضطربة. في القاهرة يلتقي التاريخ القديم بالحداثة في مزيج مثير للاهتمام.
عائشة الكيلاني/ م.م