القنب الهندي كعلاج.. "قانون 52" بتونس يضع الجميع في مأزق!
١٦ سبتمبر ٢٠٢٢من فوق ركح المسرح يختبر محمد رمزي حمزة عبر عرض مسرحي منفرد (مونودراما)، قدرته على احتواء آثار متلازمة "توريت"، المرض العصبي النادر الذي يعاني منه منذ صباه دون أن يظفر بالعلاج المناسب له في تونس بسبب القيود التي تفرضها القوانين.
خضع رمزي لكل العلاجات الممكنة بما في ذلك الأدوية المصنعة المسكنة ذات المفعول المخدر غير أنها لم تفض جميعها إلى أي انفراج، بل إن حالته تتجه أكثر فأكثر إلى التدهور، فضلا عن معاناته من حالات متكررة من التنمر والازدراء الاجتماعي والصعوبة البالغة في إيجاد عمل موجه يتناسب مع متطلباته الصحية.
لم يبق لرمزي سوى اللجوء إلى "المسرح العلاجي" للتنفيس عن معاناته وللفت الانتباه عبر مسرحيته "52" إلى القيود التي يفرضها "قانون 52" المثير للجدل في تونس أمام الإمكانيات العلاجية المستخدمة للقنب الهندي.
يقول حمزة في حديثه مع DW عربية: "لا أحد يقبل بأن يوظف شخصا يرتعش جسمه بالكامل كما لا يمكنني العمل لمدة ثماني ساعات. المسرح أيضا هو توعية للناس. والرسالة هنا هي كيف يمكن أن تتعامل مع شخص مختلف".
القنب الطبي لعلاج متلازمة توريت
يعرف "معهد الدماغ" بباريس "متلازمة توريت" بأنها مرض عصبي نفسي ذو مكون وراثي يتميز بتشنجات لاإرادية مفاجئة قصيرة ومتقطعة لا يمكن السيطرة عليها. ومن بين هذه التشنجات اللاإرادية رمش العينين بشكل متكرر أو رفع الكتفين أو إخراج أصوات غير اعتيادية أو كلمات مسيئة.
ويظهر المرض خلال مرحلة الطفولة، بين سن 6 و8 سنوات ويرتبط لاحقا بواحد أو أكثر من الاضطرابات السلوكية مثل نقص الانتباه وفرط النشاط واضطرابات الوسواس القهري والذعر أو نوبات الغضب واضطراب النوم أو التعلم. ووفق تعريف المعهد لا توجد أدوية لمتلازمة توريت. ويقتصر العلاج على التحكم في التشنجات اللاإرادية، في حال كانت شديدة.
ينطبق هذا التعريف على حالة حمزة البالغ من العمر 33 عاما، حيث اشتد المرض معه في سن 12 عاما مع ظهور أعراض غريبة مثل التفوه بمصطلحات مبتذلة وتعكر المزاج ومن ثم تواتر ارتعاشات لا إرادية في جسمه بجانب اضطرابات في النوم وفقدان التركيز.
وبينما ينصح الأطباء باستخدام القنب الطبي المستخرج لعلاج آثار واعراض متلازمة توريت، فإن هذا الصنف مدرج ضمن لائحة المستحضرات الممنوعة في تونس في القانون عدد 52، وهو القانون نفسه الذي ينظم عقوبات مشددة على التجار كما المستهلكين لأي صنف كان.
يقول حمزة إن الدواء مستخدم على نطاق واسع في العالم وكان قد تلقى جرعات منه على أيدي أطباء مشرفين في مركز للجوء بمدينة مانهايم الألمانية في 2016، حينما قام برحلة طلبا للجوء قادته لاحقا الى فرنسا قبل اضطراره للعودة الى تونس بسبب طول الإجراءات وتعقد وضعه الاجتماعي.
بيد أنه ومنذ عودته يجد حمزة نفسه بين فكي رحى، إذ يتعين عليه من جهة إيجاد الحل الأمثل طبيا لحالته المستعصية ومن جهة أخرى لا يمكنه استهلاك القنب الطبي حتى لا يلقى به خلف السجون بسبب قانون 52.
يتحدث حمزة عن ذلك بمرارة لا تخلو من نبرة ساخرة: "تخيل بوضعي الصحي الحالي وأنا خلف القضبان. سأظل أصارع وأناضل من أجل الدواء. سبق أن حصلت على العلاج المناسب في ألمانيا شعرت بارتياح كبير خفف كثيرا من التشنجات وحتى الأوجاع العضوية".
استخدام طبي يعود إلى عام 1988
بالعودة الى شهادة إحدى المراجع العلمية الدولية بشأن الحالات المشابهة لحمزة، تشير الدكتورة الألمانية كرستين مولر فاهل، أخصائية الطب النفسي الاجتماعي بجامعة الطب في هانوفر في ورقة بحثية لها، إلى أنه لا وجود لنتائج تقارير تتحدث عن آثار جانبية خطيرة أو إدمان للقنب.
على العكس من ذلك، تضيف فاهل أنه في معظم هذه التقارير، أبلغ المؤلفون عن تأثيرات إيجابية على التشنجات اللاإرادية والأعراض النفسية.
وفق الباحثة الألمانية تم اقتراح أن يكون القنب بديلا جيدا للمرضى الذين يعانون من متلازمة توريت لأول مرة عام 1988. وقد وصف هذا العلاج لثلاثة مرضى ذكور تتراوح أعمارهم بين 15 و17 و39 عاما.
وقد لاحظ الباحثون انخفاضا في التشنجات اللاإرادية الحركية والأحاسيس الإدراكية، وتحسنا في ميول إيذاء النفس، والانتباه والسلوك الجنسي المفرط، والشعور العام بالاسترخاء عند تدخين القنب الهندي. ولم تظهر أي آثار جانبية وظل تأثير العلاج ثابتا بمرور الوقت ولم ينقص.
وتضمنت الورقة البحثية أنه بمتابعة حالة العديد من المرضى، ثبت أنه من الممكن التوقف عن العلاج الدوائي للمواد الأخرى (مثل مضادات الذهان لعلاج التشنجات اللاإرادية أو مضادات الاكتئاب والقلق والوسواس القهري).
حاول حمزة استخدام القانون لطلب رخصة من أجل الحصول على الدواء في ثلاث مناسبات لكنه لم يحصل على أي رد من السلطات المعنية في أي واحدة من تلك المراسلات.
ولم يكن هذا الحل الوحيد الذي لجأ إليه حمزة. فبعد عودته الى تونس في 2017 التقى بالمتخصصة في العلاج المسرحي هدى لموشي وبدآ الاثنان في الاشتغال على حالته الصحية النادرة وكيف يمكن أن تكون موضع عمل مسرحي موجه "بسيكودرامي" ليكون بديلا للعلاج الطبي المفقود.
وبشكل مفاجئ نجحت مسرحية "52" باكورة تعاونهما في ان تدير رقاب النقاد والمتخصصين في العلاج النفسي اليها.
وتقول هدى لموشي لـDW عربية: "نجاح المسرحية لا يعود فقط إلى رجع الصدى الذي أحدثته لدى المتفرجين ولكن أيضا الى الآثار الايجابية والملحوظة على حالة رمزي. بوقوفه وأدائه المثالي على المسرح نجح في أن يتخلص من الآثار السلبية الى حد ما مثل كسر حالة الخجل والانطواء والحد بشكل كبير من حالة الارتعاش التي تصيبه والتأتأة في الحديث".
ويعلق حمزة على ذلك ايضا بأريحية "من جهة يشعرك المسرح العلاجي براحة أكثر ويمنحك فرصة التخلص من الكوابيس وحالة الخوف المرضية، ومن جهة ثانية هي مناسبة أن أسمع صوتي بصورة راقية وألفت الانتباه إلى مشكلتي الصحية وإلى أزمة قانون 52".
ومن الآثار الإيجابية الأخرى وفق المخرجة المتخصصة، أن رمزي نجح في أن يبقى فوق الركح لأزيد من 90 دقيقة من دون ان تظهر عليه اي عوارض للقلق أو الخوف أو أوجاع عضوية، بينما لم يكن في السابق يستطيع البقاء في مكان واحد لمدة تفوق 30 دقيقة. وتعلق هدى على ذلك "هذا بحد ذاته نجاح".
نجاح يخفي نصف المعضلة
قد يشكل ذلك النجاح بارقة أمل لمرضى متلازمة توريت لكن قصة حمزة لا تمثل سوى نصف المعضلة حول قانون 52، فاستهلاك القنب بصنوفه المختلفة يشكل سلاحا ذو حدين بسبب العقوبات المشددة التي تضع جميع المستهلكين على نفس المسافة.
وبسبب تلك المعضلة وجد عصام بوقرة المخرج السينمائي الشاب نفسه في حالة إيقاف بسجن المرناقية الشهير في العاصمة تونس لمدة تفوق العام من دون محاكمة، في وقت كان يتعين عليه حضور حفل تكريمه في مهرجان "فيلمي الأول" في باريس بمنحه الجائزة الأولى عن فيلمه "فراشة"، حيث حضر والده المؤرخ المعروف عبد الجليل بوقرة نيابة عنه لاستلام الجائزة.
يمثل بوقرة واحدا من بين الآلاف من الشباب التونسي الذين تعج بهم عنابر السجون في البلاد والمقدر عددهم وفق منظمات حقوقية بثلث إجمالي المساجين، أي أكثر من ثمانية آلاف سجين يلاحق عدد كبير منهم من أجل استهلاك مادة القنب الهندي المنتشر على نطاق واسع في تونس، لأول مرة.
في حديثه مع DW عربية يستعرض المؤرخ عبد الجليل بوقرة مآخذه حول قانون 52 "هذا القانون لا يعالج قضية المخدرات ويتعامل مع المستهلكين ليس على اعتبارهم مدمنون ومن الضروري معالجتهم بمراكز متخصصة، بل على اعتبارهم مجرمين يتم حشرهم في السجون مع القتلة والمغتصبين والمحتالين والإرهابيين".
يواجه بوقرة السينمائي الملاحق بتهمة زراعة نبتة بمنزله للاستهلاك الشخصي خطر السجن لمدة تتراوح بين عام وخمسة أعوام وغرامة مالية بين ألف وثلاثة آلاف دينار. ويعلق والده على ذلك "هذا القانون يضع على قدم المساواة من قام بزراعة أصيص (محبس) بنبتة مخدرة للاستهلاك الشخصي مع مروج محترف قام بزراعة حقل كامل لترويجه".
ومثل المؤرخ بوقرة تنادي عدة جمعيات حقوقية بمراجعة القانون 52 من أجل تخفيف العقوبات أو اللجوء الى العقوبات الإدارية والبديلة.
جاء في تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أنه بعد الإدانة، يجد الشخص الذي ارتكب "جريمة" تدخين سيجارة (النقب الهندي) نفسه مسجونا مع أخطر المجرمين في ظروف مزرية في زنزانة مكتظة يضطر فيها السجناء إلى النوم بالتناوب أو تقاسم الفراش مع شخص آخر. وبعد السجن، يصبح هؤلاء مثقلين بسجل جنائي، في سوق عمل تندر فيها الفرص أصلا.
لكن هل من الممكن نظريا الحفاظ على فلسفة القانون في التصدي إلى الجريمة وفرض العقوبات دون المس بالحق الشخصي في استهلاك القنب؟
يرد بوقرة على ذلك قائلا "بالطبع ممكن جدا وهذا ما قامت به عدة دول لأنها لاحظت أن كلفة السجن تتجاوز بكثير كلفة العلاج، لذا عوض صرف الأموال على المستهلكين وهم في السجن من الأفضل صرفها على علاجهم ليتخلصوا من الإدمان".
مراجعات محدودة لقانون 52
كانت هناك بالفعل مقترحات لمراجعة القانون في البرلمان التونسي منذ عام 2015 وقد بدأ العمل بها منذ العام 2017 ومن بينها إلغاء عقوبات السجن في جميع القضايا المتعلقة بحيازة المخدراتللاستهلاك الشخصي للمرة الأولى والثانية، وعقوبات السجن الإلزامي للمعاودين، ومنح القضاة سلطة تقديرية لفرض عقوبات بديلة، ويركز بشكل أكبر على خدمات العلاج.
وتبنت السلطات لاحقا إمكانية اللجوء إلى استخدام الأساور الإلكترونية بدل الزج بالآلاف في سجون مكتظة تعاني من نسبة إشغال تقدر بـ150 بالمئة مقارنة بطاقة استيعابها، بحسب بيانات منظمات مستقلة. لكن لم تخل تلك المراجعات والقرارات من هنات اذ أصبح الأمر أشبه بالدوران في حلقة مفرغة.
وتشير هاجر الهمامي المحامية والمكلفة بالشؤون القانونية في "الجمعية التونسية للوقاية والعلاج من الإدمان" لـDW عربية إلى أن المشكلة في قانون 52 بعد المراجعات الملحقة به، أن العقوبة تساق على قدم المساواة لجميع أصناف المدمنين، والقصد من ذلك من تعاطوا مواد مخدرة طبيعية وأخرى مصنعة؛ والحال أن المواد المصنعة أكثر خطورة وأشد وطأة على الصحة.
علاوة على ذلك تقول الهمامي إن الجرائم غير واضحة وتكييف العقوبات أيضا، إذ يتحدث القانون عن جريمة "الاستهلاك والمسك" بينما يمكن أن يكون هناك استهلاك دون أن ينجم عنه أي ضرر.
وتضف الهمامي "الدولة تعوزها الامكانيات لتطبيق العقوبات البديلة أو استخدام الأساور الإلكترونية بجانب النقص في مراكز العلاج. هذا يمثل مشكلة وطنية. نتلقى العشرات يوميا من طلبات للعلاج والإقامة. يعتقد الناس أن مجرد دخول أبنائهم لمراكز العلاج هو كفيل بعلاجهم من الإدمان لكن الأمر يشمل أيضا البيئة والعائلة ورغبة المدمن واستعداده للتعافي".
ومثلما يحيل القانون المثير للجدل حتى الآن إلى تناقضات من حوله ودعوات مستمرة لمراجعته، يسعى حمزة على الجهة المقابلة إلى المضي قدما في التعريف بقضية مرضى متلازمة توريت في عروضه المسرحية كما بدأ التحضير لتأسيس "الجمعية التونسية للعلاج بالقنب الطبي".
ويقول الشاب بحماس لـ DW عربية: "ليس هناك حمزة فقط. لقد حالفني الحظ مع المسرح العلاجي لأخفف معاناتي. لكن هناك الكثيرين ممن يعانون، هناك مرضى السرطان والحالات المتقدمة من مرضى الإيدز. يحتاج هؤلاء أيضا إلى علاجات ومستحضرات من القنب الطبي".
طارق القيزاني - تونس