الكتابة عن الجحيم في الماضي والحاضر
محرقة النازية كانت موضوعاً للأدب والفن على مدى عقود، ولكنها تشهد اليوم تغيراً في طريقة تناولها. فالجيل الجديد من الكتاب والفنانين لم يخض تجربة المحرقة بنفسه وإنما دخلت إلى وعيه عن طريق القراءة والإطلاع.
وفقاً لنظرية عالم المصريات يان أسمانس فإن الماضي لا يوجد بشكل بديهي، لكنه يُخلق خلقاً أثناء الكتابة. ففعل التذكر ليس مجرد استدعاء للأحداث الماضية بل قراءة مستمرة للماضي عبر الحاضر، عندئذ ينشأ جدل لا ينقطع بين الزمنين، بحيث يتمكن الماضي من أن يعود إلى الحياة في الحاضر، ويتمكن الحاضر من الاستفادة من تجارب الماضي. فكل حاضر يخلق ماضيه بالشكل الذي يناسبه. ولعل هذه النظرية هي أكثر النظريات الملائمة للتعبير عن المراحل التي مرت بها الكتابة عن المحرقة النازية.
المرحلة الأولى:
في عام 1945 تم تحرير معسكرات الإبادة النازية وإنقاذ من كتبت لهم النجاة، فوجد الكاتبان الإيطالي بريمو ليفي والأسباني خورخه سيمبرون نفسيهما يعودان إلى الوطن بعد أن قضيا سنوات في معسكرات الإبادة. وكان السؤال الذي ينتظرهما هو كيف سيكتبان عن هذه التجربة؟ ماذا سيفعلان بألمهما؟ كيف يستطيعان أن يصفا ما يفوق الوصف؟.
بريمو ليفي هو أول الناجين من معسكر أوشفيتس ممن استطاعوا كتابة تجربتهم، وصدر كتابه عام 1947 بعنوان "هل هذا من البشر؟". وبرغم الاهتمام المتواضع الذي حظي به الكتاب في أوساط المثقفين والعامة على السواء، يبقى هذا الكتاب يشكل حجر الزاوية في أدب المحرقة. فلقد خلق توازناً دقيقاً بين تقرير شاهد العيان وبين الذكريات والانطباعات. أما خورخه سيمبرون فقد فضل البقاء لسنوات وحيداً مع ذكرياته دون أن يمتلك الجرأة أو القدرة على الاقتراب منها، ولم يعرف في البدء أي شكل ستأخذه تجربته المرعبة، حتى خرج كتابه "الرحلة الكبيرة" عام 1960 والذي يدور حول حياته في معسكر "بوخين فالد".
المرحلة الثانية:
اتسمت كتابات الجيل الأول من الناجين بميلها إلى السرد المباشر، فتجربة القتل البطئ لا تزال حاضرة بقسوة في أرواحهم وفي عقولهم وكيانهم، كالخيال يرافقهم في كل مكان وزمان. ثقل التجربة يفوق قدرتهم على الاستيعاب، فلا يستطيعون حيال ذلك سوى تسجيل الاحداث كما هي دون أي محاولة للتعامل معها أو شرحها. فأصبحت كتبهم أقرب إلى الوثيقة منها إلى العمل الفني، وهو أمر منطقي، فلكي يولد العمل الفني لا بد للكاتب أن يحرر نفسه قليلاً من قبضة التجربة حتى يتمكن من التعبير عنها، وتجربة بمثل بشاعة الإبادة المنظمة لا يمكن أن يتحرر المرء من أسرها بسهولة.
هذا ما حدث بالفعل بعد ذلك. فلقد تتالت الأعمال الفنية المستوحاة من تجربة الحياة في معسكرات الإبادة، وأخذت مع الوقت تزداد نضجاً فنياً ورهافةً في التعبير. لعبت ذكريات الماضي في هذه الأعمال دوراً وظيفياً، لا دوراً تقريرياً كما كانت في الأعمال السابقة. واستطاع عدد كبير من الكتاب أن يخلق تياراً في الكتابة يدور حول تجربة النجاة من المحرقة، منهم يوري بيكر، روت كلوجر، ادجار هيلزينرات، كورديليا ادفاردسون، جيورج تابوري، الكسندر تسما وغيرهم. نجحت هذه الكتابات في نقل التجربة الشخصية إلى الذاكرة البشرية اجمالا، فلم تعد تجارب الحياة في معسكرات الإبادة تخص شخصاً واحداً فقط وإنما أصبحت تجربة تخص الانسانية بأكملها. وحصل هذا التيار على تكريم رسمي بحصول الكاتب المجري امري كيرتش على جائزة نوبل عام 2002.
المرحلة الثالثة:
وبمرور الوقت يتناقص عدد الناجين من محرقة النازية، ويرحل الكثير من شهود عيان تلك الفترة المظلمة. فتصبح ذكريات المحرقة ذكريات منقولة في المقام الأول لا ذكريات حية في صدور الناس، مما يعني تغيرا في علاقة الجيل الجديد مع المحرقة وتجاربها وآلمها، وبالتالي تغيرا في ظروف الكتابة حولها أيضا، فكل ما يعرفه هذا الجيل عنها استقاه من قراءاته لا من خبراته المباشرة ، وآلامه مستقاه من آلام الآخرين. ويشهد العصر الحالي تحولاً في طريقة تناول موضوع المحرقة من "جدية" شهود العيان إلى "خيال" الأحفاد. وهو تحول لن يكون سهلاً، لأنه يفتح الباب أمام التعبير عن المحرقة بشكل قد يبدو للأجيال القديمة مبتذلاً أو تجارياً.
وفي هذا السياق أثار معرض "مرآة الشر" الذي أقيم عام 2002 في المتحف اليهودي في نيويورك ضجة كبيرة حول مدى قداسة موضوع المحرقة. فقد حفل المعرض بأعمال فنية ساخرة حول صورة النازي من منظور حديث، فمثلاً هناك عمل يصور فأراً على شكل هتلر، ومجسم لمعسكر آوشفيتس من قطع لعبة الأطفال "اللوغو"، ونموذج لمعسكر إبادة آخر استخدمت فيه علب كارتونية فارغة تخص ماركة القبعات الشهيرة "برادا". هذه الأعمال وغيرها أثارت استياءً عارماً في أوساط الناجين من المحرقة، باعتبار أنها تستهين بهذه التجربة ولا تعرضها بالجدية اللائقة. وكان الفنانون الشباب المشاركون في هذا المعرض، والذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً، قد دافعوا عن رؤيتهم بأنها ليست استهانة بالمحرقة، ولكنها محاولة لعرضها باللغة البصرية في للعصر الحديث.
الجدل سيطول بلا شك حول هذا التطور، لكنه مؤشر على تغير طريقة التعامل مع موضوع المحرقة، طريقة يطرحها الحاضر اليوم للتحاور مع الماضي.