الهولوكوست.. كلام عباس "لا يغتفر" وخطأ شولتس "مذهل"
١٨ أغسطس ٢٠٢٢أثارت تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بشأن الهولوكوست(الثلاثاء 16 أغسطس / آب 2022) خلال مؤتمر صحافي مشترك في برلين رفقة المستشار الألماني أولاف شولتس، موجة من ردود الفعل المنددة والغاضبة على المستويين السياسي والإعلامي. واتهم عباس إسرائيل بارتكاب "50 محرقة"، وذلك في معرض رده على سؤال حول ذكرى مرور خمسين عاما على هجوم مسلحين فلسطينيين على الفريق الإسرائيلي في أولمبياد ميونيخ. وقال عباس إنه منذ عام 1947 وحتى يومنا هذا "ارتكبت إسرائيل خمسين مجزرة في القرى والمدن الفلسطينية، في دير ياسين، الطنطورة، كفر قاسم وغيرها، خمسين مجزرة، خمسين محرقة". ويبدو أن الرئيس الفلسطيني لم يستحضر حساسية هذه المقارنة في هذا البلد الذي شهد جرائم الهولوكوست وبذل مجهودات غير عادية لاستكشاف مسؤوليته في تلك الجرائم التي استهدفت إبادة الشعب اليهودي بشكل منهجي بهدف إزالته من الوجود. المستشار شولتس الذي كان واقفا إلى جانب عباس، لم يرد على تصريحات الأخير، ما جلب له هو أيضا عدة انتقادات، وإن استدرك الأمر، بعد موجة غضب عارم.
وجاءت أقوى الانتقادات من قبل رئيس المجلس المركزي الأعلى لليهود في ألمانياجوزيف شوستر الذي عبر عن غضبه في تصريح لصحيفة "تاغشبيغل" (17 أغسطس / آب 2022) من غياب رد فعل فوري للمستشار بالقول "كان هذا بلا شك خطأ"، موضحا أن المستشار لم يرد ولم يناقض عباس في اتهامه لإسرائيل بالهولوكوست، بل صافحه بعد ذلك. وأضاف يجب على الجميع أن يواجه بشدة إنكار أو التقليل من هول المحرقة في جميع الأوقات. لا يهم ما إذا كان رئيسًا أو شخصًا يجلس بجوارك في الحافلة". الصحيفة البرلينية كتبت من أن "الغرض من حظر المقارنة ليس فقط عدم التقليل من شأن الجرائم التي ارتكبها الألمان النازيون، بل أيضا عدم التشكيك في الطابع الفريد لتلك الجرائم". وأضافت الصحيفة أن الحظر كان مفروضا بشكل خاص على الألمان "فبحكم تاريخهم، لديهم واجب خاص للتعامل بصدق وحساسية مع الماضي النازي والجرائم التي ارتكبت خلال تلك الفترة. لذلك أصبح من التقاليد معاقبة كل من انتهك ذلك الحظر".
موجة ارتدادات من برلين إلى إسرائيل
سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد بدوره إلى انتقاد تصريحات عباس ووصفها بأنها عار. وكتب في تغريدة على تويتر "اتهام محمود عباس إسرائيل بارتكاب "خمسين محرقة" من ألمانيا ليس عارا على المستوى الأخلاقي فحسب، فهذه أيضا كذبة وحشية (..) إن التاريخ لن يغفر له". وأمام العاصفة التي أثارتها تصريحاته، نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية توضيحا للزعيم الفلسطيني وصف فيه المحرقة النازية بأنها "أبشع الجرائم في تاريخ البشرية الحديث (..) لم يكن المقصود من إجابته إنكار خصوصية المحرقة.. إنما المقصود بالجرائم التي تحدث عنها هي المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة على أيدي القوات الاسرائيلية، وهي جرائم لم تتوقف حتى يومنا هذا". تصريحات عباس تأتي في سياق بالغ الدقة، بعد مقتل 49 فلسطينيا في غزة بعد أن نفذت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية ردا على ما وصفته بأنه تهديد وشيك من حركة "الجهاد الإسلامي". وردت الحركة بإطلاق أكثر من ألف صاروخ صوب إسرائيل.
من جهته، عبّر المستشار الألماني أولاف شولتس عن استيائه من تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس واعتبر شولتس أنها تقلل من جسامة المحارق النازية. وكتب شولتس على تويتر "بالنسبة لنا نحن الألمان على وجه الخصوص، فإن أي تشبيه بالمحرقة بما لها من خصوصية أمر غير مقبول لا يُغتفر. أنا مشمئز من التصريحات المشينة التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس". وقال متحدث باسم الحكومة الألمانية إن مكتب شولتس استدعى رئيس البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في برلين للاحتجاج على تصريحات عباس.
وفي السياق نفسه، أكد الرئيس الألماني فرانك فالتر ـ شتاينماير لصحيفة "بيلد" الشعبية الواسعة الانتشار (17 أغسطس) أن "المقارنة التي قام بها عباس فيما يتعلق بإسرائيل غير مقبولة على الإطلاق، وهي ومؤلمة بشكل خاص، لأنها حدثت في عاصمة بلادنا". وأضاف شتاينماير أن بلاده تقر بمسؤوليتها التاريخية وتقف بقوة إلى جانب إسرائيل. وذهبت متحدثة باسم مكتب أنغيلا ميركل في نفس الاتجاه وقالت إن "المستشارة السابقة ميركل تدين بأشد العبارات تصريحات الرئيس عباس خلال المؤتمر الصحفي في برلين (..) إنها محاولة غير مقبولة للتهوين من تفرد جريمة هدم الحضارة من خلال المحرقة التي ارتكبتها ألمانيا في زمن النازية ومن ثم وضع دولة إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر على درجة واحدة مع ألمانيا في زمن النازية" مشيرة إلى أن ألمانيا لن تتسامح مع مثل هذه المحاولات.
استنكار لحجج عباس بشأن "الفصل العنصري"
في نفس المؤتمر الصحفي المشترك، انتقد المستشار شولتسوصف رئيس السلطة الفلسطينية السياسة الإسرائيلية على أنها "نظام فصل عنصري". وقد قال عباس حينها إن "التحول إلى واقع جديد لدولة واحدة في نظام فصل عنصري" لا يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة. أما شولتس فأجاب: "أريد أن أقول صراحة في هذه المرحلة إنني لا أتبنى كلمة فصل عنصري ولا أعتقد أنه من الصواب وصف الوضع كذلك". كما دعا عباس الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية، لكن شولتس رفض هذا الطلب وقال إن ألمانيا تواصل دعم حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، معتبرا أن الاعتراف يجب أن تستند إلى حل تفاوضي مع إسرائيل.
وبهذا الصدد كتبت صحفية "أوغسبورغر ألغماينه" الألمانية (17 أغسطس) منتقدة محمود عباس: "كانت تصريحات الرئيس الفلسطيني كاشفة لنواحٍ عديدة، فلطالما قدم نفسه في الدول الغربية على أنه رجل مصالحة، لكن عباس الآن أزاح اللثام عن وجهه أخيرًا كمُحرض معاد للسامية. ومع ذلك، فإن قطاعات واسعة من الساسة الألمان يتبعون سرديته بشأن الشعب المضطهد والمحروم من حقوقه". واستطردت الصحيفة أن لعباس موقف غامض بشأن العنف وكراهية اليهود فهو يريد كل شيء في الأراضي الفلسطينية باستثناء الديمقراطية، وهذه جوانب كثيرا ما يتم التغاضي عنها تقول الصحيفة.
"عباس ألحق الضرر بالقضية الفلسطينية"
ورأى عدد من المعلقين الألمان أنه كان يجب على شولتس وفريقه توقع هذا النوع من الانزلاقات من قبل محمود عباس، وبالتالي كان يجب على المستشار أن يكون يقظا ومستعدا للرد عليها فورا. وقد تمكن شولتس من ذلك في مسألة "الفصل العنصري"، فيما تأخر في الرد على قضية المحرقة. وبهذا الصدد كتب موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى معلقا (17 أغسطس) بأن "صمت شولتس كان صاخبا وتردد صداه" حتى بعد انتهاء المؤتمر الصحفي المشترك. واعتبر الموقع أن تصريحات عباس "ألحقت المزيد من الضرر بالقضية الفلسطينية والعديد من المخاوف المشروعة لشعب ظل يعاني منذ عقود (..) واستطرد الموقع موضحا أنه كان على المستشار شولتس أن يرافق محمود عباس في جولة إلى النصب التذكاري للمحرقة اليهودية وسط برلين ويشرح له رؤية ألمانيا "للجريمة الفريدة من نوعها المتمثلة في الهولوكوست".
موقع "فوكوس" الألماني (17 أغسطس)، ذهب في نفس الاتجاه معتبرا أن محمود عباس أثبت مرة أخرى أنه معاد للسامية وهو الذي يقود سلطة فلسطينية فاسدة ويخشى مواجهة الانتخابات، وبالتالي فهو "يخشى حقا شعبه" يقول الموقع الذي استرسل مضيفا: "كان يمكن للمرء استنتاج أنه ربما كان من الحكمة عدم استقبال مثل هذا الرجل (عباس) في مقر الحكومة الألمانية وعدم منحه هذا الشرف، فلا توجد دولة فلسطينية بحكم الأمر الواقع، وبالتالي لا يوجد رئيس دولة فلسطيني يمثلها".
الحفاظ على خيط الحوار مع عباس.. ولكن!
دعا مفوض معاداة السامية في الحكومة الألمانية، فيليكس كلاين لعدم قطع قنوات الاتصال والحوار مع الرئيس الفلسطيني، على الرغم من تصريحاته الفضائحية. وقال كلاين في تصريح لبرنامج "تاغستيمن" لشبكة "أ.إي ر.دي" (17 أغسطس) إن عباس "لفت الانتباه مرارا بتصريحات شفوية ومكتوبة حول إسرائيل"، لكنه في المقابل يمثل الفلسطينيين وعلينا أن نواصل "التعامل معه". وقال كلاين إنه يأمل أن يكون الجانب الفلسطيني قد استوعب أن "مثل هذه التصريحات غير مقبولة في ألمانيا". غير أن صحيفة "لايبتسيغر فولكستسايتنوغ" (17 أغسطس) ذهبت في اتجاه آخر واعتبرت أن هذا "الغضب سيكون بلا معنى إذا ظل دون عواقب. إننا نحتاج إلى إعادة مناقشة كيف يجب التعامل مع القادة الذين يتجاوزون الحدود. يجب أن نضع إطارًا لاتصالاتنا الدبلوماسية بشكل أكثر وضوحا، كما ظهر بالفعل مع روسيا والصين. يعلم الرئيس الفلسطيني جيدًا أنه بدون مساعدة مالية ودبلوماسية من أوروبا وألمانيا، ستضيع فلسطين بسرعة. يجب الآن فحص شروط ذلك بشكل أكثر دقة. أصبح من الواضح بشكل متزايد أن عباس هو الرجل الخطأ في عملية السلام للفلسطينيين. في برلين دعا إلى السلام، بينما كانت الصواريخ تطلق على إسرائيل من غزة وكان هو نفسه يظهر مدى ضآلة احترامه للدولة اليهودية".
من جهته، اعتبر الأمين العام للحزب الديمقراطي الحر (الشريك في الائتلاف الحكومي) بيغان جير سراي، أن تصريحات عباس حول الهولوكوست لها نتائج عكسية فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط. وقال "ظهر مرة أخرى أنه لا يمكن توقع أي تقدم في عملية السلام من هذا الجيل من السياسيين الفلسطينيين. وقال جير سراي لصحيفة "راينشه بوست" الألمانية (18 أغسطس) "إن تقديم ادعاءات غير دقيقة من الناحية التاريخية بشأن المحرقة اليهودية في ألمانيا يمثل استفزازًا هائلاً". تصريحات عباس كانت "غير مقبولة على الإطلاق وبشعة".
"صحيفة شفيبيشه تسايتونغ" (17 أغسطس) كتبت معلقة أن "خطأ شولتس مذهل حقا: لقد استغل الرئيس الفلسطيني زيارته لمقر المستشارية للقيام بمقارنة سخيفة تمامًا للمحرقة دون أن يكون هناك رد للمستشار شولتس، حتى أنه صافح عباس (بعد انتهاء المؤتمر الصحافي)". هذا أمر محرج حقا، بل وشائن (..) على الرغم من أن تصرف شولتس غير مفهوم، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في تقييمه بشكل أحادي الجانب. صمته ليس علامة على التسامح مع معاداة السامية في ألمانيا، كما أنه لا يشير إلى صعوبات في العلاقات الألمانية الإسرائيلية. إن الأمر يتعلق بضعف التواصل لدى المستشار". أكثر من أي شيء آخر تقول الصحيفة.
حسن زنيند