برتولت بريشت - الشاعر الذي أضاء الزمن المظلم
٢٧ فبراير ٢٠١٠لم يؤثر كاتب في المسرح الألماني مثلما فعل برتولت بريشت (1898 – 1956)، ولم يجدد أحد في المسرحيات الألمانية شكلاً وموضوعاً مثلما فعل رائد المسرح الملحمي. لم ينحصر تأثير بريشت على المنطقة الألمانية فحسب، إذ ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، وكان خلال الأربعينات والخمسينات من أكثر الكتاب حضوراً على خشبة المسرح العالمي. كما كان بريشت - المعروف عربياً بـ"بريخت" - حاضراً بقوة في العالم العربي خلال ستينات القرن الماضي. آنذاك انتشرت ما يشبه "حمى بريشت" في أنحاء المنطقة العربية، فأصابت أكثر من مترجم تنافسوا على نقل عدد كبير من مسرحياته، مثل "الاستثناء والقاعدة" و"دائرة الطباشير القوقازية" و"الأم شجاعة" و"غاليليو". أما مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" فقد تم اقتباسها في أكثر من بلد عربي، ونذكر مثلا مسرحية "ملك الشحاتين" للشاعر المصري نجيب سرور، ومسرحية "عطوة أبو مطوة" للكاتب المصري ألفريد فرج.
قصائد بريشت في العالم العربي
ولكن ماذا عن الشاعر بريشت الذي يعتبر من أبرز الشعراء السياسيين في المنطقة الألمانية؟ لقد توارى بريشت الشاعر في العالم العربي خلف الكاتب المسرحي اليساري، ولذلك تأخر الاهتمام بشعره بعض الشيء. وكان المترجم وأستاذ الفلسفة عبد الغفار مكاوي من أبرز من عرّفوا القارئ العربي بأشعار بريشت، وهو قام قبل سنوات بجمع القصائد المبعثرة في المجلات وأعاد طباعتها في كتاب بعنوان "هذا هو كل شيء"، صدر عن "دار شرقيات" بالقاهرة.
والآن، بات بإمكان القارئ العربي الاطلاع على "مختارات شعرية شاملة" لبرتولت بريشت، صدرت عن "دار الجمل"، وقام بإعدادها وترجمتها عن الانكليزية أحمد حسان. من بين نحو ألف قصيدة اختار حسان 325 قصيدة من مختلف المراحل الشعرية لدى بريشت لتقديمها للقارئ، وهو يقول عن هدفه من هذه المختارات في حديث لـ "دويتشه فيله": "كان هدفي أن أقدم الشاعر كله، بكل اتساع أفقه الشعري. في المجموعة هناك قصائد سياسية مباشرة، وقصائد كفاحية وتحريضية، كما أن هناك قصائد حب وتأمل وقصائد في الطبيعة. كان طموحي هو تقديم مختارات شاملة لبريشت."
"إلى الأجيال المقبلة"
أي زمن هذا
الذي يكاد يُعد فيه الحديث عن الأشجار جريمة
لأنه يتضمن الصمت على العديد من الفظائع؟
بهذه الكلمات لخص برتولت بريشت مأساة جيله، وتراجيديا الشعر في زمن الحرب. استُدعي بريشت للتجنيد خلال الحرب العالمية الأولى، فخدم في مستشفيات الجيش، وهناك عايش عن قرب أهوال الحرب، ومن هذه التجربة نبع رفضه التام لكل الحروب. توقف بعد ذلك عن دراسته في كلية الطب وترك مسقط رأسه أوغسبورغ متوجهاً إلى برلين، عاصمة الثقافة والفن في أوروبا في العشرينات. وفي برلين انطلق نجم بريشت كاتباً مسرحياً، فنشر أول أعماله بعنوان "بعل" عام 1920، وبعد ثلاث سنوات نشر مسرحيته الكوميدية "طبول في الليل" وفيها نقرأ جملته التي وجهها للجمهور بعد ذلك في أكثر من عمل، وهي: "لا تحملقوا هكذا برومانسية." أعقبت ذلك مسرحيات عديدة، منها: "قائل نعم، وقائل لا" و"الاستثناء والقاعدة" و"ازدهار وسقوط مدينة مهاغوني". ولكن سرعان ما يصل هتلر إلى الحكم في ألمانيا، وهكذا تبدأ في حياة بريشت رحلة المنافي التي أخذته من برلين إلى براغ إلى باريس إلى موسكو إلى الدانمرك وإلى السويد. هذه الرحلة المريرة تحدث عنها بريشت في قصيدته المشهورة "إلى الأجيال المقبلة" حيث قال:
"أنتم يا من ستعقبون الطوفان
الذي غمرنا
حينما تتحدثون عن إخفاقاتنا
تذكروا كذلك
الزمن الحالك
الذي أفلتم منه.
فقد مضينا نبدل بلدا ببلد أكثر مما نبدل حذاء بحذاء."
استقر المقام بالشاعر في الولايات المتحدة، غير أن حملة المكارثية طالته عام 1947، فعاد إلى أوروبا، ثم استقر في برلين الشرقية. وفي عام 1956 رحل الشاعر ورائد المسرح الملحمي بعد حياة قصيرة، غزيرة الإنتاج، عميقة التأثير.
راهينة بريشت
قد يبدو شعر بريشت أحياناً سياسياً مباشراً يقف على النقيض تماماً من جماليات الشعر الحديث الهامس، فماذا يضيف إلينا اليوم؟ أحمد حسان يعتبر في مقدمته أن بريشت – رغم كل هذه السنين – "ما زال قادراً على إثارة الدهشة لدى جمهور آخر". وعن هذا الجمهور المختلف يقول في حواره مع "دويتشه فيله": "كنت متهيباً أن يحاكم الناس بريشت قبل أن يقرأوه، لاسيما وأن الاهتمام بالسياسة بات منحسراً الآن بشدة. غير أني لاحظت إقبالاً كبيراً على شعر بريشت من الشبان تحديداً، وهو اهتمام ينطلق من شعره وليس من مواقفه السياسية". هناك أسباب كثيرة تجعل عمل "هذا المبدع الكبير – وفي مركزه شعره – قادراً على البقاء كما تمنى رغم تغير الظروف وروح العصر"، يقول حسان في تقديمه للمختارات، وبترجمته الشاملة يدعو المترجم القارئ العربي إلى إعادة اكتشاف بريشت شاعراً إنسانياً جميلاً.
الكاتب: سمير جريس
مراجعة: طارق أنكاي