بناء الثقة بين المخلوقات يبدأ عبر حاسة الشم
الروح الإنسانية هي وعاء المشاعر والأحاسيس التي نختبرها في حياتنا. وقد ظلت طبيعة هذه المشاعر تثير عقول الفلاسفة والعلماء على مدار الزمان. في عصرنا الحديث فاجئنا العلماء باكتشافات مذهلة أخرجت المشاعر من ثوبها السحري وجعلتها تبدو كمجرد ناتج تفاعل كيميائي. والشعور بالثقة بالآخرين هو آخر تلك المشاعر التي نجح العلماء مؤخراً في ربطها بمجال الكيمياء، فطالما أرجعها المرء إلى طول المعاشرة وحسن الظن، غير أن نتيجة بحث قام به فريق من العلماء السويسريين والأمريكان أثبتت أن الكيمياء تلعب دورا كبيرا في تكوين هذا الشعور وعلى الأخص هرمون اوكسيتوسين Oxytocin، وذلك في بحث لهم نشر مؤخراً في مجلة الطبيعة Nature.
ما هو هرمون اوكسيتوسين؟
هرمون اوكسيتوسين هو هرمون معروف في عالم الحيوانات الثديية، ينتجه عقلها بغزارة في أوقات الاسترخاء والحميمة الجسدية، كما يكثر العثور عليه في أجساد الأمهات المرضعات. ويلعب هذا الهرمون دوراً كبيراً في التخفيف من الضغط الواقع عليهن ويساعدهن في إنتاج لبن الرضاعة. كما يرجح كثيرون أنه السبب وراء النسيان الذي يصيب المرضعات أحياناً. وفي مملكة الحيوان أظهرت التجارب التي أجريت على نوعين من الفئران أهمية هذا الهرمون في توليد الشعور بالثقة، فمن المعروف أن فأر المروج يتمتع بنظام عائلي يكتفي فيها الذكر بأنثى وحيدة، بل ويدافع عنها بكل قوة ويشاركها في عملية البحث عن الغذاء، أما فأر الجبال فلا تظهر أنثاه أية قدرة على تمييز واختيار شريكها. وأظهرت نتائج البحث أن عدد مستقبلات هرمون اوكسيتوسين في دماغ فأر المروج يفوق بكثير عددها في دماغ فأر الجبال. وعند تقليل عدد المستقبلات في دماغ فأر المروج تظهر أنثاه سلوكاً شبيهاً بسلوك فأر الجبال. ويعلق البروفيسور ارنست فير من جامعة زيورخ واحد أعضاء الفريق على هذه النتيجة قائلاً: "للهرمون دور كبير في السلوك الاجتماعي للفئران، فهو يؤثر على عملية اختيار الشريك، والتي يمكن اعتبارها لون من ألوان الثقة فيه". ويضيف: "لقد دفعتنا نتائج هذه التجربة إلى توقع وجود تأثير مماثل للهرمون على الإنسان أيضاً. وهذا ما تأكدنا من صحته".
مستثمرون ووكلاء
قام العلماء بإجراء تجربة على متطوعين من البشر للتأكد من تأثير هرمون اوكسيتوسين على توليد الشعور بالثقة، وتتلخص هذه التجربة في لعبة يقوم فيها المتطوعون بدور المستثمرين، ويستأمنون فيها بعض الوكلاء على نقودهم. ويحق للمستثمرين إيداع نقودهم أربع مرات عند أربعة وكلاء مختلفين، وفي كل مرة يختلف مقدار النقود التي يرغبون إيداعها تبعاً لمدى ثقتهم في وكلاءهم. نتيجة الاستثمار هي مضاعفة المقدار المودع أربعة أضعاف ربحاً أو خسارةً، بمعنى أن كفاءة الوكيل وثقته تحدد ما إذا كان الاستثمار رابحاً أو خاسراً. قُسّم المتطوعون إلى فريقين: فريق يلعب دور المستثمرين، وفريق يلعب دور الوكلاء المؤتمنين. بعدها تم تقسيم المستثمرين إلى مجموعتين: مجموعة أُعطيت جرعة من هرمون اوكسيتوسين عن طريق الاستنشاق بالأنف، والأخرى لم تحصل على الهرمون.
أظهرت نتائج التجربة أن المجموعة التي استنشق أفرادها هرمون اوكسيتوسين تولد عندها إحساس كبير بالثقة بالوكلاء، حيث استثمر 29 فرداً منهم 45% من القيمة القصوى التي يحق لهم استثمارها، في حين استثمر أفراد المجموعة الاخرى 21% فقط من نفس القيمة. كما زادت النسبة المتوسطة للاستثمار في حالة استنشاق الهرمون عنها في حالة عدم استنشاقه. أما الوكلاء فلم يحدث الهرمون أي تغيير لديهم، فهو يساعد فقط على توليد الشعور بالثقة تجاه إنسان آخر ولا يسبب زيادة الجدارة بالثقة، أي أن استنشاق الهرمون يجعلك تشعر بالثقة تجاه الآخرين لكن لا يجعلك محل ثقة الآخرين بالضرورة. وقد تم التأكد من هذه النتيجة عن طريق تكرار التجربة مع استبعاد الوكلاء وإسناد دورهم إلى أجهزة حاسب آلي تقوم بتقرير المكسب والخسارة عن طريق مبدأ الصدفة، ففي هذه التجربة لم يكن للهرمون أي فائدة.
الهرمون ليس كل شيء
بالرغم من معرفة تأثير هرمون اوكسيتوسين تبقى طريقة عمله غامضة تماماً على حد تعبير البروفيسور فير. لذلك يعكف العلماء حالياً على دراسة صور لنشاط الدماغ في حالة استنشاق الهرمون للاستفادة منه في علاج بعض الأمراض النفسية مثل الرهاب الاجتماعي (الفوبيا) ومرض التوحد مع الذات (الأوتيزم Autismus).
لكن هل يمكن إساءة استخدام الهرمون لتوليد إحساس كاذب بالثقة؟ يشكك البروفيسور فير في ذلك، فمتوسط عمر الهرمون في الهواء الطلق لا يزيد عن دقيقتين، وبالتالي يصعب الحصول على تأثير بمجرد تعبيق الهواء بالهرمون السحري. لذلك عمد العلماء أثناء إجراء التجربة إلى ضخ الهرمون مباشرة في أنوف المتطوعين.
في النهاية يؤكد البروفيسور فير أن الهرمون ليس العامل الوحيد في بناء الثقة، إذ أن التجربة الشخصية تلعب دوراً كبيراً في ذلك، ويضيف ساخراً: "أراهن على أن المتطوعين ما كانوا ليضعوا ثقتهم في الوكلاء لو حصلوا على نتائج بعد كل دورة استثمار، فعندها لن تنفع أي جرعة من الهرمون".