بين نموذجي مصر وتونس.. أيّ الطرق سيسلكها الجيش الجزائري؟
٢٧ مارس ٢٠١٩منذ اندلاع الاحتجاجات في الجزائر، وجزء واسع من الرأي العام يتابع خطابات أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، ونائب وزير الدفاع، لأسباب متعددة منها الأدوار الكبيرة التي تلعبها مؤسسة الجيش في البلد، ليس فقط في الجانب الأمني، بل أساساً في الجانب السياسي. فجلّ رؤساء الجزائر، قبل بوتفليقة، امتلكوا خلفية عسكرية، كما يرى مراقبون أن بوتفليقة نفسه لم يكن ليصل إلى كرسي رئاسة البلد لولا ضوء أخضر من الجيش، وهو ما استثمره الرئيس الجزائري لبناء علاقة قوية مع قايد صالح، منذ تعيين هذا الأخير على رأس الجيش عام 2004.
وتأتي خطوة الجيش الأخيرة لتؤكد هذا الدور المحوري. فمنذ دعوة قايد صالح لتفعيل المادة 102 المتعلقة بشغور منصب رئيس البلاد بسبب المرض، والجزائريون يترقبون ماذا سيحدث في الأيام القليلة القادمة. فهناك فصيل رحب بالخطوة واعتبرها تجاوباً مع مطلب الشارع الرافض لاستمرار عهد بوتفليقة وبناء مرحلة سياسية جديدة أكثر إشراقاً بشكل يشبه نوعاً ما السيناريو التونسي، وبين آخر اعتبرها مؤشراً مقلقاً على إمكانية استثمار قايد صالح في الأزمة لأجل إحكام قبضة العسكر على البلد، وبالتالي إمكانية تكرار السيناريو المصري.
كيف يتدخل الجيش الجزائري في الحياة العامة؟
أحكم الجيش قبضته على الجزائر عبر جلّ فترات التاريخ الحديث للبلاد منذ الانقلاب على أحمد بن بلة، أوّل رئيس منتخب للجزائر. وقد كانت للعشرية السوداء التي شهدتها البلاد، نتائج متباينة على المؤسسة العسكرية، ففي الوقت الذي تعاظم فيه نفوذ المؤسسة في المجال الأمني، تجاوباً مع مطالب الكثير من الجزائريين الذين رأوا في الجيش حامياً ضد الإسلاميين المسلّحين، تأثرت سمعة المؤسسة ذاتها سلباً بوقفها المسار الانتخابي، وبورود تقارير وشهادات اتهمت بعض قيادييها بالتورط في حمام الدم، إلى جانب أجهزتي الاستخبارات والأمن.
وبينما أجرى فيه محيط بوتفليقة تغييرات على مستوى جهازي الأمن والاستخبارات بإحالة جنرالات على التقاعد ومحاكمة آخرين، استطاع أحمد قايد صالح، أن يحافظ على منصبه منذ عام 2004، وقد عبّر طوال السنوات الماضية عن مواقف مساندة لبوتفليقة. وتؤكد عدة تقارير إعلامية أن قايد صالح قام بعدة تغييرات في مؤسسة الجيش، تخطيطاً منه لمنع أيّ مفاجأة تهدّد نفوذه، خاصة مع حديث محلّلين عن وجود خلاف بينه وبين محيط الرئيس، لكن الخلاف لم يمنع توافق الطرفين على استمرار بوتفليقة، ما دام يحقّق وجوده توازن الأجنحة المسيطرة على الحكم، ومن ضمنها الجناح العسكري.
بيدَ أن الاحتجاجات الأخيرة ضغطت كثيراً على مؤسسة الجيش، وهو ما تؤكده ماريا جورسوا، خبيرة جزائرية في المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية لـDW، إذ تقول إنه بعد فشل كلّ الخطوات السابقة التي أعلن عنها قايد صالح، أضحى الجيش الآن مستعداً للتضحية ببوتفليقة لأجل إعادة الاستقرار ووقف المظاهرات، لكن مع ذلك، فقايد صالح، عبّر عن موقفه، والكرة الآن في ملعب المجلس الدستوري الذي سيقرّر في أمر تطبيق المادة 102، تشير الخبيرة.
ويقول د. عبدالفتاح ماضي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية ومنسق مشروع التحول الديمقراطي بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لـDW عربية إن الجيش هو الفاعل الأول في الحياة السياسية، لكن كان هناك دوماً صراع بين العسكريين والسياسيين تم حله بطرق خاطئة، منها الاغتيالات قبل الاستقلال، ثم انقلاب بومدين عام 1965، وإدخال البلاد في العشرية السوداء بداية التسعينات. غير أن بوتفليقة، الرئيس المدني، اختار الطريق الخطأ للاستمرار في الحكم، إذ استعان بجنرالات دون جنرالات وبأسرته وحاشيته بدل المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وحكم القانون.
بين مصر وتونس
طوال العقود الماضية، سعى الجيش الجزائري إلى الابتعاد عن واجهة الأحداث السياسية، وترك دوره الحقيقي يعمل في الخفاء، لكن المواقف الأخيرة لقايد صالح، خلقت بعض التوجس لدى مراقبين، من إمكانية تكرار السيناريو المصري، واستلام الجيش لدفة الحكم بشكل مباشر. لكن في الآن ذاته، ورغم أن الشعارات لم تطلب رحيله شخصيا، إلّا أن قايد صالح يبقى محسوباً على الدولة العتيقة في الجزائر، والشارع أعلن دوماً رغبته برئيس مدني منتخب خارج دائرة النظام ككل، ما يجعل ترشيح قايد صالح للانتخابات، تحت مظلة شعبية، أمراً صعباً للغاية.
كما يحضر السيناريو التونسي بقوة، فالمتحمسون لموقف قايد صالح يرون أنه يمكن أن يرافق انتقال العملية السياسية وإحداث تغيير في بنية النظام دون المساس بمطالب المحتجين، خاصة وأن الحل الدستوري الذي اقترحه قايد صالح كان ضمن المطالب التي رفعها سياسيون معارضون منذ مدة. لكن ماريا جورسوا، ترى أنه بالمقارنة مع جيشي تونس ومصر، يبقى الجيش الجزائري أقرب للتجربة المصرية نظراً لمصالحه الاقتصادية الكبيرة، فهو يمثل "دولة عميقة بقوة كبيرة"، بينما يظهر الجيش التونسي محترفاً أكثر ويركز على مهامه الأمنية.
كما أن عبدالفتاح ماضي يرى أن صراعات العسكريين والسياسين في الجزائر أمر مختلف عما كان في تونس، حيث كان الجيش بعيدا إلى حد كبير عن السياسة لحساب نفوذ المؤسسة الأمنية، ومختلف أيضا عما كان في مصر، حيث كانت هيمنة جنرالات الجيش شبة كاملة منذ 1952. غير أن ماضي يؤكد أن جنرالات الجزائر أقرب إلى مصر من تونس، وأنه على النخبة الجزائرية تعلم الدرسين المصري والتونسي جيدا بالاقتناع أن معظم قادة الجيوش الذين أعلنوا أنهم سيخرجون عن السلطة لا يخرجون منها فعليا.
وما زاد التوجس من دعوة قايد صالح، أن الوضع الصحي لبوتفليقة ليس خافياً على أحد، فهو مصاب بجلطة دماغية منذ عام 2013 ولم يخاطب شعبه منذ سنوات، وانتظار رئيس الأركان كلّ هذا الوضع ليطلب تفعيل المادة 102 يطرح الكثير من التوجس، خاصةً أن الدستور لا يعطي للجيش حق إعلان مثل هذا الموقف.
ويوضّح عبد الفتاح أن تحرك قايد صالح يعني أنه أوضح نيته الحقيقية، وأكد أنه الحاكم الفعلي للبلاد الذي يحدّد شكل الحل. ويشير الباحث ذاته أن الجزائر قادرة على بناء نظام حكم ديمقراطي، وأن تكرّر تجارب دول تمكنت من إخراج العسكر كالأرجنتين وكوريا الجنوبية والبرازيل، ولن يتم ذلك إلا بثلاثة عوامل، أولها استمرار الضغط الشعبي، وثانيها وجود برنامج سياسي تحمله حركة سياسية أو تحالف سياسي قوي، وثالثها ترتيب الأوليات عبر توسيع قاعدة الذين يرون في الديمقراطية مصلحة لهم من جهة، وتفكيك تحالفات النظام القديم وجذب أي منشقين من النظام لصف الديمقراطية من جهة أخرى.
الكاتب: إسماعيل عزام بمساهمة كيرستن كنيب).