تحالف الرعب...بين الإسلاموفوبيا والإسلاموية
٢٩ يناير ٢٠١٥كانت حوادث إطلاق النار في باريس مشهداً همجياً، وجريمة لا يمكن تبريرها بأي شكل اياً كان سلوك الضحايا فالقاتل يبقى قاتلاً كما يبقى المغتصب مغتصباً. أما أسباب تحول هؤلاء الشباب إلى جهاديين قتلة بهذه الهمجية فهذه قضية أخرى. هل نشأ عنفهم في الواقع التاريخي الاجتماعي أم أنه وليد لأيديولوجية الإسلام السياسي؟
من مخرجات الواقع الفرنسي ما بعد الكولونيالي
هؤلاء القتلة هم نتاج للمجتمع الفرنسي وقد نشأوا كجزء من التجمعات الفقيرة المُهمشة على حواف العاصمة من ذوي الأصول الشمال إفريقية المعزولة عن غالبية المجتمع، والذين يفتقدون الحصول على التعليم الجيد، والتنافس في أسواق العمل، والمشاركة المجتمعية والسياسية. لذلك فقد هربوا إلى أيديولوجية الإسلام السياسي الجهادية العالمية حيث لمعت أمامهم فكرة القيام بدور بطولي تاريخي سيغير العالم.
هم إذاً من مخرجات الواقع الفرنسي ما بعد الكولونيالي، أي واقع الدولة التي لم تتصالح بعد مع ماضيها الدموي في مستعمراتها جنوب المتوسط. وقد لا يختلف واقع هؤلاء الشباب كثيرًا عن الوضع الاجتماعي- السياسي لأمثالهم تحت وطأة الأنظمة القمعية في العواصم العربية. هكذا يبقى المشروع الإسلامي الكبير بالنسبة لكل هؤلاء ملاذاً أخيراً للخلاص من كل الشرور.
ولكن هذا البناء التخيلي للإسلام كحل لكل الشرور ومؤسس للهوية يقابله على نفس المستوى ولكن في الاتجاه المضاد بناء أيدولوجي مشابه يصور الإسلام كمصدر لكل الشرور والعنف، ويحمل هذا التصور اليمينيون، والعنصريون، وحركات الإسلاموفوبيا. وسواء عن وعي أو دون وعي فقد ملأت الإسلاموية الفراغ السياسي الذي نشأ في العقود الأخيرة بعد انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية لكي يشكل النقيض التخيلي للـ "الغرب المتحضر الحر".
تصورات ثنائية للعالم
إن كلا الأيديولوجيتين تفترضان هُويات خيالية زائفة مُتورطة في معركة مروعة تتنبأ بنهاية العالم، والتي ستؤدي إما إلى هزيمة "الشر" الإسلاموي أو إلى خلاص الخليقة من خلال الإسلام. ولسوء الطالع، لا تبقى تلك الأبنية الأيديولوجية خيالاً حبيس العقول لكنها تتحول بشكل متزايد إلى عوالم واقعية. وهكذا نشهد من ناحية تطورًا راديكاليًا للجماعات والمنظمات الإسلاموية مثل القاعدة، وتنظيم الدولة الاسلامية، وجماعة بوكو حرام، ومن ناحية أخرى، تزداد قوة الحركات العنصرية المناهضة للإسلام - مثل حركة "بيغيدا" التي نشأت في مدينة دريسدن في ألمانيا في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 ونظمت العديد من التظاهرات والمسيرات ضد الإسلام في أوروبا.
كل من الأيديولوجيتين تستفيد من نقيضتها
وبهذا تستفيد كل من الأيديولوجيتين من نقيضتها وتضفي علي نفسها الشرعية مبررة وجودها بتهديد المعسكر الآخر العدو. فالعالم كله يعادي الإسلام ولهذا لا بد من الجهاد من أجل قيام الدولة الإسلامية، كما أن الخطر الإسلاموي يهدد العالم بأسره ولهذا فلا بد من حشد العالم الحر لدرء المد الإسلامي والإرهاب. كلتاهما تتشاركان فكرة الإسلام "الجوهري أو المطلق" غير القابل للتغيير. فلا يرى الإسلامويون المتشددون أنفسهم كلاعبين اجتماعيين قابلين للتكيف مع السياقات التاريخية المتغيرة، بل يرون أنفسهم كمفوضين لتنفيذ معتقدات تعسفية لا بينة عليها. فهم يتجاهلون تماماً الجوانب العقلانية والتقدمية للتراث الفكري الإسلامي. وعلى خلفية هذا الصراع المعقد يمكن فهم أحداث باريس.
لذلك يمكننا الجدل حول سؤال حرية التعبير والفن من منظورين مختلفين. وتظل تلك الحرية من المنظور الأوروبي قيمة لا يمكن المساس بها
على أي حال فإن هدف السخرية من رموز وعقائد مقدسة لدى مجموعة بشرية بعينها يظل محل تساؤل، خاصة عندما يمس جماعة دينية ذات حساسة خاصة في هذه المرحلة التاريخية. ما هو حجم التكلفة والمخاطر في الغرب، ولكن بشكل أكبر في العالم العربي الإسلامي، عندما يولد هذا السلوك (السخرية من المقدسات) المزيد من العنف؟ فضحايا هذا العنف في العالم العربي يفوقون أولئك الضحايا في الغرب بعدة مرات، بالنظر إلى ضحايا إرهاب الإسلام السياسي الجهادي بوجه عام.
وعلى الجانب الآخر يبقى السؤال الذي يجب طرحه من منظور عربي إسلامي: ما إذا كان رد الفعل العنيف أو الغاضب على رسومات أو أفلام - لم تكن لتُلقي أي اهتمام - أمرًا مبرَّرًا.
احترام كل الجماعات الدينية
هناك سؤال آخر ربما أكثر أهمية: هل الدعوة لاحترام العقيدة تشمل كل الأنواع المختلفة من العقائد الدينية؟ أم أن الهجوم الوحشي والغضب العارم ينشأ فقط عندما تنتهك المقدسات الإسلامية دون غيرها؟ هل يقبل المرء حرية التعبير ويتسامح مع مثل هذه الانتهاكات، واضعًا في الاعتبار أنها موجهة أيضًا إلى كل أعضاء الجماعات الدينية - من البوذيين، واليهود، والكاثوليك، أو الملحدين؟ أم يرغب المرء في مجتمع يقيد الحرية عمومًا عندما يأتي الأمر إلى انتهاك المعتقدات الدينية أو غيرها من المعتقدات؟ وهل يمكن لهذا المفهوم أن يطبق أيضًا في العالم العربي الإسلامي، حيث الأقليات مثل الملحدين والمثليين يتعرضون للتمييز بشكل يومي من قبل الدولة والمجتمع؟
ل يمكن اعتبار الهجمات الإرهابية في باريس فرصة للاتفاق على مثل هذه القيم الإنسانية المشتركة - الحرية غير المقيدة للتعبير أو الاحترام تجاه كافة المعتقدات المغايرة؟ ربما كان من الصعب مراجعة وإعادة تعريف هذه القيم عن طريق طرح التساؤلات والمفاوضات حولها، بل من خلال تجارب المسلمين والتحديات التي يواجهونها في الشتات الغربي.
ومن المفارقات التي ولدتها هذه الأحداث أنه في نفس اللحظة التي حُكِم فيها على شاب بالسجن 3 سنوات بتهمة الإلحاد في مصر، وتلقى مُدَّوِن شاب 50 جلدة من أصل 1000 جلدة حُكِم بها عليه بتهمة التجديف في السعودية، كان وزيرا خارجية هذين البلدين ضمن المسيرة من أجل الدفاع عن حرية التعبير في باريس!
نحو سياسة خارجية للغرب جديرة بالثقة
هناك المئات من المعتقلين السياسيين محتجزين حاليًا في سجون النظام العسكري للجنرال عبد الفتاح السيسي رغم أنهم لم يقترفوا جرماً غير أنهم عبروا عن آرائهم. والعديد منهم في حالة صحية حرجة أو على حافة الموت نتيجة إضرابهم عن الطعام لفترات طويلة. ولكن الجنرال السيسي قد قوبل بحرارة في قصر الإليزيه.
هذه هي النقطة التي يحتاج الأوروبيون أن يتدخلوا فيها إذا كانوا يريدون استعادة مصداقيتهم في العالم الإسلامي. فليس بالضرورة أن تكون السخرية من الأديان هي البرهان الدامغ على حرية الرأي والتعبير في أوروبا. ربما تحتاج الحرية بالأحرى للدفاع عنها ودعمها في العالم العربي الأسلامي أكثر من أوروبا.
إن الهجوم على "شارلي إيبدو" يعزِّز من عملية الاستقطاب الاجتماعي والتحالف الخطير بين الإسلام السياسي الجهادي والإسلاموفوبيا، بين الإرهاب والحرب على الإرهاب، كما يعزز من أيديولوجية الدولة الأمنية.
لقد حان الوقت لإظهار التضامن مع التجمعات الإسلامية السلمية في أوروبا والتي تعاني من ضغوط عديدة، والتصرف بشكل واع ضد العنصرية، والتمييز، والتعميم.
نقد ذاتي ذو مصداقية
وبدلاً من ممثلين دينيين يقودون حوارات سطحية كما جرت العادة في أعقاب مثل هذه الكوارث، فلا بد من القيام بنقد ذاتي ذي مصداقية ضد النواقص الاجتماعية، والتهميش، وعدم المساواة في الفرص، على سبيل المثال فيما يخص فرص المسلمين في الوصول للنظام التعليمي الأوروبي. وينطبق الأمر ذاته على البلاد العربية: فهي يقينًا تحتاج للمزيد من المدارس، والمستشفيات، بدلاً من الأسلحة وحاملات الطائرات، التي يراد استخدامها ضد الإرهاب بينما هي في الحقيقة بمثابة وقود يساعد على إشعال نيران حرب الإسلاميين المقدسة.
علاوة على ذلك، تحتاج خطابات المنظمات والسلطات الدينية الشائعة في العالم الإسلامي لنقد ومراجعات صارمة. على المرء فقط أن يقرأ تعليقات القراء على "شارلي إيبدو" أو أن يبحث عن هذا المصطلح باللغة العربية على موقع تويتر: النتائج في الغالب أكثر من صادمة. فهذه الخطابات والتصورات تظهر تعصبًا دينيًا، ورواجاً لنظريات المؤامرة، وميولاً للعنف والهمجية، ومعاداة لليهود. هذا هو الواقع الخطابي والفكري الكارثي الذي يختلف بالطبع عن اللغة المنمقة وأسلوب الخطابة المهذب لحوار الأديان.
عاطف بطرس
حقوق النشر: قنطرة 2015