تحليل: الأمن الغذائي في الجزائر.. نجاح يواجه مصاعب متجذرة
٢١ أغسطس ٢٠٢٤قبل بضعة أيام دشن وزير الصناعة الجزائري عدة صوامع خرسانية لتخزين القمح في ولاية بومرداس الساحلية. وقال الوزير خلال زيارته للولاية الواقعة على ساحل البحر المتوسط إن الجزائر حققت خطوات هامة نحو تحقيق الأمن الغذائي من الحبوب.
ويأتي كلام المسؤول الجزائري مع كثرة الحديث منذ مطلع الألفية الحالية عن الخطط الوطنية والاستراتيجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من سلع الإنتاج الزراعي الأساسية وعلى رأسها القمح.
بيد أن البلاد ما تزال من أكبر المستوردين في العالملهذه المادة الحيوية رغم مساحاتها المترامية بنحو 2.4 مليون كيلو متر مربع وتوفر الأراضي الزراعية والقابلة للزراعة.
فخلال الأشهر القليلة الماضية على سبيل المثال أفاد تجار ومتعاملون لوكالة رويترز أن الجزائر اشترت مؤخرا كميات من القمح بحدود 900 ألف طن، وكمية بحدود 200 ألف طن من القمح الصلب. وسبق ذلك شراء كميات أخرى على دفعات من الصعب حصرها، لاسيما وأن المصادر الرسمية الجزائرية ومصادر التجار لا تصرح عنها.
خطة زراعية طموحة
معروف عن الجزائر أنها كانت سلة غذاء عالمية من القمح والعنب والنبيذ ومنتجات أخرى في الماضي. غير أن الزراعة الجزائرية عانت من قصور وتدهور في ثمانيات وتسعينات القرن الماضي قياسا إلى الإمكانات الطبيعية والبشرية والمالية الضخمة التي تتمتع بها البلاد.
ومع ارتفاع الأصوات المطالبة بوضع حد للاعتماد على الاستيراد والارتهان للأسواق الخارجية في مجال الأغذية أطلقت الحكومة منذ عام 2000 برنامجها الوطني للتنمية الزراعية والريفية (PNDA) بهدف تحقيق الأمن الغذائي الوطني من خلال تحديث المزارع ودعم المزارعين وتوسيع شبكات الري.
وخلال العقدين الماضيين مرّ البرنامج بأكثر من تحديث وتقييم. وواكب ذلك قيام الحكومات المتعاقبة بضخ 30 مليار دولار فيه خلال الفترة الممتدة من 2000 إلى 2018 حسب موقع مجموعة باثفايندر شريك اللجنة الأممية الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا/ الإسكوا. ولكن ماذا كانت النتيجة؟
فاتورة غذاء مرتفعة
تفيد معطيات أكثر من مصدر أن هناك تحسنا واضحافي إنتاج الخضروات والحمضيات والبقوليات والبطاطس التي تضاعف إنتاجها منذ عام 2002 ليصل مثلا إلى 1.4 مليون طن على صعيد الحمضيات و 1.3 مليون طن على صعيد البقوليات. ومؤخرا صرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن الجزائر اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب ما ساعد على ادخار 1.2 مليار دولار كانت موجهة لاستيراد هذه المادة.
بيد أنه، ورغم هذا التحسين، ما تزال الجزائر تستورد كميات كبيرة من القمح والزيوت النباتية والسكر واللحوم والحليب وبعض الفواكه لسد احتياجات السوق المحلية رغم التحسن في إنتاج هذه المادة أو تلك. وما تزال البلاد من أكبر مستوردي القمح في العالم، لأن الإنتاج المحلي لا يغطي سوى 30 إلى 40 بالمائة من الاحتياجات الوطنية.
وبالنتيجة ما تزال المواد الغذائية تشكل نحو 24 بالمائة من مجمل الواردات مقابل حوالي 33 بالمائة مطلع الألفية الحالية. ورغم هذا التراجع الإيجابي لصالح المنتج المحلي فإن فاتورة استيراد الأغذية ما تزال مرتفعة إذ تزيد قيمتها السنوية على 9 مليارات دولار سنويا، أي نحو ربع قيمة مجمل الواردات التي وصلت إلى نحو 36 مليار دولار في عام 2022 حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية.
عوائق كثيرة تعكس ضعف البنية التحتية
كغيرها من بلدان كثيرة تدفع الجزائر هذه الأيام أسعار عالية لاستيراد المواد الغذائية على ضوء تبعات جائحة كورونا والحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا. وهو الأمر الذي يرفع قيمة فاتورة الأغذية وخاصة فاتورة استيراد القمح التي تقدر بنحو 4 مليارات دولار سنويا.
بيد أن المشكلة الأساسية تكمن في تعثر برامج الإنتاج الزراعي باستثناء انتاج الخضروات خلال العقدين الماضيين، لاسيما وأن أداء المزارع التي هي في غالبيتها مزارع صغيرة ما يزال ضعيفا. كما أن استصلاح المزيد من الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب يسير بشكل بطيء.
وهناك أسباب عديدة لهذا التعثر من أبرزها عدم النجاح حتى الآن في تحديث البنية التحتية الزراعية واستخدام التكنولوجيا العالية في الإنتاج بحيث يعوض ولو بشكل جزئي من تبعات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
على ضوء ذلك ما تزال مقومات النقل والتخزين والتبريد غير متوفرة بما يكفي لتقليل الهدر وحفظ المنتجات الغذائية التي تتلف بسرعة. وما يزال القطاع الخاص بعيدا عن تحقيقالأهداف المتوخاة من دوره بسبب ضعف استثماراته وخبراته ومعاناته من أوجه الفساد لاسيما الرشاوي التي تحد من فعالية الدعم والحوافز المقدمة له في مجال القروض الميسرة والاستشارة وتقديم الخبرة.
ورغم إصدار العديد من المراسيم والقوانين لمكافحة الفساد ومن أبرزها القانون رقم 06-01 تاريخ 20 فبراير/ شباط 2006 للوقاية من الفساد ومكافحته والتعديلات التي أدخلت عليه في عام 2022، فإن المشكلة ما تزال تشكل عائقا كبيرا امام خطط الإصلاح الاقتصادي بشهادة مختلف الجهات المحلية والأجنبية الراغبة بالعمل في مشاريع التنمية.
مشروعان واعدان مع قطر وإيطاليا
وعلى ضوء الخبرات المحلية والعوائد المتواضعة لبرامج التنمية الزراعية الطموحة والاستثمارات الحكومية فيها، تنتقل التنمية الزراعية في هذه الأيام إلى مرحلة جديدة على ما يبدو. وتتميز هذه المرحلة في محاولات أقوى من ذي قبل لجذب الاستثمار والخبرات الأجنبية إلى الإنتاج الزراعي من المحاصيل الاستراتيجية وعلى رأسها الحبوب والألبان واللحوم. وعلى هذا الأساس تم التوقيع على مشروعين استثماريين ضخمين الأول مع قطر والثاني مع إيطاليا.
ففي أبريل/ نيسان الماضي وقعت وزارة الزراعة الجزائرية وشركة "بلدنا" القطرية اتفاقية لإقامة مشروع متكامل لتربية الأبقار وإنتاج الحليب في الجنوب الجزائري بقيمة تصل إلى أكثر من 3.5 مليار دولار. ويؤمل من هذا المشروع الضخم على مساحة 117 ألف هكتار تغطية 50 بالمائة من حاجة السوق المحلية إلى الحليب المجفف وإلى سد قسم كبير من حاجته للحوم الحمراء.
ومع إيطاليا تم التوقيع على مشروع آخر ضخم بقيمة 420 مليون دولار بين الصندوق الوطني الجزائري للاستثمار ومجموعة "بونيفيكي فيراريزي (بي اف)" الإيطالية.
ويهدف المشروع إلى توسيع إنتاج القمح والبقوليات في الجنوب الجزائري على مساحة تصل إلى حوالي 36 ألف هكتار في ولاية تيميمون. ومن أبرز أهداف المشروع تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح القاسي من خلال زيادة مساحات الإنتاج إلى 500 ألف هكتار في جنوب البلاد.
أهمية دعم صفار المزارعين
مما لاشك فيه أن المشاريع الكبيرة بخبرات أجنبية ستساهم في سد الفجوة بين الإنتاج المحلي وحاجة السوق. غير أن المسألة التي لا تقل أهمية عن ذلك تكمن في تفعيل دعم المنتجين الصغار والمستثمرين المحليين في القطاع الخاص الذي ينشطون بالقرب من المدن والبلدات ويمدوها يوميا بالمنتجات الطازجة.
ولا ينبغي أن يقتصر هذا الدعم على تقديم قروض الإنتاج، بل توسيعها بشكل أقوى لتشمل القروض اللازمة لإقامة منشآت النقل والتبريد والتخزين بشكل يشمل مختلف مناطق الإنتاج الزراعي وتسويقه.
كما ينبغي تعزيز دور الميكنة الزراعية اللازمة لصغار المنتجين وتعميم تجارب الري الحديث الذي يقوم على اقتصاد استهلاك المياه التي يتراجع مخزونها بسبب موجات الجفاف التي تعاني منها البلاد مثلها مثل غالبية الدول العربية.