في نهاية فبراير شباط سنة 2004، أمضيت كمراسل صحفي، أياما وليالٍ رهيبة مع سكان منطقة الحسيمة شمال المغرب على وقع هزات ارتدادية لزلزال كانت قوته 6,3 درجات في سلم ريشتر خلّف أكثر من 600 قتيل وآلاف المصابين. وهو أعنف وآخر زلزال شهده المغرب في العقود القليلة الأخيرة قبل زلزال إغيل بجبال الأطلس الكبير جنوب المغرب في تاسع سبتمبر أيلول 2023.
في ميادين وشواطئ المدينة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بينما كان السكان نهارا يشيّعون موتاهم ويقضون ليلهم يفترشون الأرض في العراء خوفا من تجدد الهزات الأرضية التي لم تتوقف إبانها لأيام عديدة، كانت تنتصب محطات البث الإذاعية والتلفزيونية العالمية المتنقلة وبشكل خاص منها الإسبانية التي تنقّل مراسلوها بكثافة آنذاك لتغطية أحداث الزلزال في إقليم الحسيمة المنكوب. ولم تكن آنذاك وسائل التواصل الاجتماعي قد أخذت مداها.
وخلف أحداث زلزال الحسيمة وتداعياتها كانت رحى معارك سياسية وإعلامية تدور بضراوة بين المغرب وإسبانيا الذين كانا بالكاد يطويان صفحة أزمة حادة في تاريخ البلدين بما يعرف بأزمة جزيرة ليلى (2002) التي كادت أن تتحول إلى مواجهة عسكرية في مضيق جبل طارق.
ففي الوقت التي كانت فرق الإنقاذ تسابق الزمن لإنقاذ وإسعاف العالقين تحت البنايات المنهارة في الحسيمة والقرى المجاورة لها وفي بلدات نائية بجبال الريف التي ضربها الزلزال بقوة، كانت شوارع الحسيمة وميادينها تشهد مساء مظاهرات احتجاج من السكان الغاضبين بسبب تأخير عمليات الإنقاذ والإسعافات. ولعبت إبانها وسائل الإعلام الإسبانية دورا كبيرا في تغطية الاحتجاجات، بينما تخلّفت وسائل الإعلام المحلية عن دورها، وما زاد الأوضاع سوءا آنذاك أن وسائل الإعلام المغربية كانت تجد صعوبة في أداء رسالتها وإيصال رسائل المواطنين والساسة ومسؤولي وحدات المساعدات، للسكان المحليين بسبب اعتمادها على اللغتين العربية والفرنسية، بينما كانت وسائل الإعلام الإسبانية تستفيد من انتشار لغة المستعمر السابق بين سكان المنطقة إضافة لتحدثهم اللغة الأمازيغية (تريفيت) التي لم يكن استخدامها آنذاك في الإعلام المغربي سوى على نطاق محلي محدود. كما تعامل المغرب إبانها بتحفظ مع عرض السلطات الإسبانية تقديم المساعدة.
ورغم الأجواء السياسية والإعلامية الصعبة التي خيمت على أحداث زلزال الحسيمة، تمكن المغرب إبانها في أيام قليلة من النزول بثقله ميدانيا وسياسيا لتغطية متطلبات المتضررين من الزلزال الذي شكل منعطفا باتجاه مداواة الجروح في علاقة سكان المنطقة بالسلطات المركزية التي اتسمت تاريخيا بالحذر والتمرد أحيانا، وكادت أن تزداد حدتها جراء معاناة الزلزال.
ويبدو أن دروس كوارث الزلازل والفيضانات التي تعرض لها المغرب على امتداد عقود وما نتج عنها من أحداث وتداعيات، تطرح أسئلة حول نهج التعامل لدى صناع القرار المغربي مع أحداث الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق الحوز وتارودانت وخلف آلاف الضحايا بين قتلى ومصابين، ولاسيما فيما يتعلق بمسألتي سرعة تقديم الإسعافات والمساعدات ودور المساعدات الأجنبية والدولية، وعما إذا كانت قرارات السلطات المغربية في هذا الشأن تستند بالأساس إلى معايير تقنية وإنسانية أم أن اعتبارات السياسة تهيمن عليها.
وتجد هذه الأسئلة مسوغاتها في سياق الجدل والتساؤلات التي تثيرها وسائل إعلام دولية حول تأخر قبول المغرب دخول مساعدات من فرنسا والجزائر وحتى ألمانيا، في الوقت التي تم فيه قبول مساعدات من دول أوروبية وعربية أخرى، مثل إسبانيا وبريطانيا ودول خليجية (الإمارات، قطر، السعودية) وهي دول تربطها علاقات تحالف متينة بالمغرب، وتضاف إليها تونس التي تصادف أحداث الزلزال أجواء ورغبة لديها كما لدى المغرب في تحسين علاقاتهما وتجاوز الأزمة الديبلوماسية التي تسببت فيها منذ أكثر من سنة حادثة استقبال الرئيس قيس سعيّد لزعيم جبهة البوليساريو وأعقبها سحب المغرب لسفيره وردت تونس بسحب سفيرها.
معايير قبول المساعدات
يرصد مراقبون تفاوتا ملحوظا بين المغرب وبعض الدول في النظرة والتعامل الميداني مع استراتيجية تقديم الإسعافات والمساعدات للمناطق المنكوبة في كارثة الزلزال. فبينما تُطرح أسئلة وانتقادات في بعض العواصم مثل باريس والجزائر وبدرجة أقل في برلين، حول خلفيات "تأخّر" السلطات المغربية في الترخيص لفرق الإنقاذ التي أعدتها تلك الدول لتقديم المساعدة للمناطق المتضررة، خصوصا أن عامل الزمن يلعب دورا حاسما في إنقاذ الأرواح في الأيام الأولى بعد الزلزال، توضح الرباط بأنها لم تعتمد "انتقائية" على أساس سياسي في التعامل مع مساعدات الدول، بل هنالك "معايير دقيقة وأولويات" يتم اعتمادها في تنظيم عمليات تدخل فرق الإنقاذ الأجنبية.
واستنادا إلى بيانات رسمية مغربية يمكن رصد معايير وأولويات يتم التركيز عليها:
أولا: أن المغرب يرى أنه ليس بحاجة إلى مساعدات غذائية وأدوية، نظرا لتوفره على موارد كافية منها سواء بالاعتماد على دور المؤسسات الحكومية أو جهود المجتمع المدني المحلي.
ثانيا: أن نجاعة خطط الإنقاذ والإسعافات، تقتضي تنسيقا محكما بين فرق الإنقاذ المغربية مع نظيراتها الأجنبية، وأن عددا محدودا من المتدخلين، يجعل مهمات الإنقاذ الحسّاسة تتم بكيفية أكثر تنسيقا ونجاعة. وبالمقابل فإن عدم التنسيق في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى نتائج عكسية.
ثالثا: أن الأولوية في قبول المساعدات، تم تحديدها اعتمادا على سلم احتياجات عاجلة تتمثل في عمليات الإنقاذ، وبأن الدول التي تم قبول مساعداتها كانت قد تقدمت بعروض تقنية ملائمة لاحتياجات المناطق المنكوبة في هذه المرحلة من مواجهة تداعيات الزلزال. وكانت الإشارة هنا إلى الإمارات وإسبانيا والمملكة المتحدة وقطر، التي رحب الملك محمد السادس بدورها.
رابعا: أن قبول مساعدات هيئات المجتمع المدني والتطوعية الأجنبية يتعين أن تمر عبر القنوات الرسمية لدولها.
خامسا: أن المغرب يرحب بمبادرات التضامن وتقديم المساعدات من دول عديدة وهيئات دولية وإقليمية، لكنه يرغب، وفق ما جاء في بيان للخارجية المغربية، مع تقدم عمليات التدخل أن يتطور تقييم الاحتياجات المحتملة، مما قد يؤدي إلى اللجوء إلى عروض الدعم المقدمة من دول أخرى صديقة، حسب احتياجات كل مرحلة على حدة.
ولا شك أن الخبرة التي تراكمت لدى فرق الإنقاذ المغربية في كوراث سابقة، تقف وراء اختيارها لهذا النهج في استقبال المساعدات التقنية، بيد أن اختبار سلامة هذه الاستراتيجية سيكون على المحك في أرض الواقع، وذلك على الأقل بالانطلاق من مؤشرين:
أولهما تقييم أولي لمدى نجاعة عمليات الإنقاذ والإسعافات التي تمت في الأيام الثلاثة الأولى مباشرة بعد وقوع الزلزال. وهنا يمكن رصد بعض الأصوات المحلية من ذوي ضحايا ومتطوعين من المجتمع المدني الذين ينتقدون "بطءًا في أداء السلطات" قد يكون تسبب في ارتفاع أعداد الضحايا، ويعزو خبراء صعوبات في عمليات تدخل فرق الإنقاذ الأولى المتألفة من وحدات الجيش والدرك و"الحماية المدنية" وطواقم الإسعافات الطبية، إلى التضاريس الوعرة في المناطق النائية على مرتفعات الجبال، والتي يتطلب الوصول إليها في الظروف العادية ساعات بالسيارة، وأصبح ذلك مستعصيا في الوهلة الأولى بعد الزلزال والهزات الارتدادية بسبب الأضرار التي طالت المسالك الجبلية جراء الانهيارات الصخرية والأتربة.
أما المؤشر الثاني لاختبار مدى نجاعة النهج الذي توخته إدارة الأزمة بالمغرب، فسيكون في طور لاحق من خلال تقييم شامل لجهود الإنقاذ والمساعدات، إثر تقديم السلطات والهيئات المختصة المعطيات الكاملة عن حقيقة الأوضاع الميدانية وحصيلة عمليات التدخل على الأرض، بمراحلها المختلفة والمتدخلين العديدين فيها وفق سلّم الأولويات الذي اعتمدته السلطات المغربية.
قنوات سياسة غير سالكة؟
بينما تستبعد وزارة الخارجية المغربية وجود "انتقائية" سياسية في قبول المساعدات الأجنبية، يمكن التوقف عند معطيات لا يبدو أنها مجرد مصادفات.
أولها ما يجري بين الرباط والجزائر منذ حوالي ثلاثة عقود من توترات وحدود مغلقة، ليكتمل المشهد في صائفة 2021 بتعطل لغة الديبلوماسية عبر قرار الجزائر قطع علاقاتها الديبلوماسية مع المغرب وإغلاق مجالها الجوي في وجه جارتها الغربية. وإثر تعرض منطقة الأطلس الكبير للزلزال، سارعت الجزائر بتقديم العزاء في الضحايا وأبدت استعدادها تقديم "المساعدات اللوجستية والمادية الطارئة للشعب المغربي الشقيق لمواجهة آثار الزلزال"، كما أعلنت مبادرتها بفتح مجالها الجوي لنقل المساعدات والجرحى. بيد أن بيان الخارجية الجزائرية الذي خلت فيه رسالة "التعزية للمغرب" من أي إشارة للجهات المسؤولة في المغرب، وتحديدا ملك البلاد، تضمن تنويها إلى أن "الجزائر تعرض مخطط مساعدات لوجستية ومادية طارئة على المملكة المغربية، في حال قبول الرباط بها".
وأمام عدم صدور رد فعل مغربي، وفيما بدأت وفود المساعدات الأجنبية تصل إلى المناطق المنكوبة في المغرب، توخت الجزائر في مرحلة لاحقة الإعلان عن جاهزية فرق الإنقاذ وطائرات عسكرية محملة بمساعدات للإقلاع من مطار بوفاريك العسكري القريب من العاصمة الجزائر. كما أضاف بيان للرئاسة الجزائرية لاستعداد السلطات العليا في البلاد تقديم المساعدات عبارة "في حال طلب من المملكة المغربية".
ووسط استبشار شعبي واسع في البلدين باحتمال أن تكون بارقة أمل لبداية كسر للجليد في علاقات البلدين، وتصريحات مرحبة من وزير مغربي لم تُؤكَّد رسميا، خيمت علامات صمت أو برود في رد الفعل المغربي، ثم أعقبها توتر في وسائل الإعلام الجزائرية التي عاد بعضها إلى نبرة هجوم على السلطات المغربية "التي تحرم ضحايا الزلزال من المساعدة الجزائرية". ومن شأن هذه الانتقادات أن تزيد الاحتقان في العلاقات بعد حادثة مقتل مصطافين مغاربة مؤخرا بمياه البحر الأبيض المتوسط على يد قوات من البحرية الجزائرية.
ورغم أنه لم يكن من السهل الاستنتاج بسرعة أن المغرب سيرفض اليد الجزائرية الممدودة، إلا أن التعقيدات الشديدة في علاقات الجارين الملبّدة، تتطلب حذرا كبيرا في قراءة مواقف الجانبين. فقبل سنتين فقط رفضت الجزائر بشكل حاد قبول عرض مغربي بتقديم مساعدات لإطفاء الحرائق الكبيرة بمنطقة القبائل وشرق الجزائر.
وكان ظهور بصيص ضوء في نفق طويل من التراكمات السلبية، سيشكل مفاجأة كبيرة وربما تحمل بارقة أمل في كسر الجليد، فلطالما شكلت الكوارث مناسبة لمداواة جروح عميقة بين بلدان متنازعة. لكن النظر في الحالة الجزائرية المغربية يقتضي الكثير من الحذر والصبر، فرغم الحديث في الآونة الأخيرة عن وجود وساطة جديدة من قطر، واحتمال قبولها هذه المرة من طرف الجزائر التي قد تكون بصدد القيام ببعض المراجعات باتجاه العودة للخيار المغاربي، في ضوء عدم قبول عضويتها في البريكس، وتزايد التحديات الجيوسياسية وخصوصا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا. أما الجانب المغربي الذي طالما اعتمد سياسة اليد الممدودة للجزائر، فلن يكون مفاجئا أن يستقبل مساعدة جزائرية، لكن الأمر ربما لن يتم بسلاسة على الأقل لاعتبارات النخوة والندية الشديدة المتبادلة في تعامل الدولتين، خصوصا إذا لم يظهر في مبادرة الجزائر ما يدل على بوادر "الودّ" تجاه ملك المغرب.
وفي هذا السياق فإن تأكيد وزارة الخارجية المغربية في بيان صدر الثلاثاء 12 سبتمبر أيلول 2023، أن المدير العام لوزارة الشؤون الخارجية المغربية أبلغ القنصل الجزائري بأنه وبعد التقييم. فان المملكة المغربية ليست بحاجة الى المساعدات الانسانية المقترحة من قبل الجزائر. وأضاف البيان أن الحكومة الجزائرية تأخذ علما بالرد المغربي الرسمي الذي تستخلص منه النتائج البديهة!
وتشكل فرنسا المثال الثاني للحالات الدّالة على عدم وجود مصادفات في وضع المغرب عروض المساعدة من بعض الدول، على لائحة الانتظار. إذ بدا الوضع مفاجئا بالنسبة لبعض المراقبين و "مستغرَبا" بالنسبة لوسائل إعلام فرنسية سارعت من جهتها لربط عدم تلقي باريس إشارة موافقة فورية من الرباط لعروض المساعدات التي أعلن عنها الرئيس إيمانويل ماكرون خلال مشاركته في قمة مجموعة العشرين بنيودلهي ووزيريه في الخارجية والداخلية، بالتوتر الذي يخيم على علاقات البلدين منذ سنتين على الأقل، بتزامن مع تقارب فرنسي جزائري، وعلى خلفية ملفات ثنائية وإقليمية عديدة وأهمها برود فرنسي في دعم مقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع كحل لنزاع الصحراء الغربية ودعم سيادته عليها، بينما يلقى المقترح دعما من الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أوروبية ضمنها بالخصوص إسبانيا المستعمر السابق للإقليم.
ويبدو أن باريس التي تشهد علاقاتها مع الجزائر تأرجحا، وتتعرض لتحديات كبيرة في منطقة نفوذها التقليدي بدول الساحل وغرب أفريقيا، تسعى لاغتنام فرصة الوضع الإنساني في أحداث زلزال المغرب، لإعادة المياه إلى مجاريها مع حليفها التاريخي المغرب الذي تبدو الهوة في العلاقة معه آخذة في الاتساع في ضوء توجه الرباط لبناء تحالفات وشراكات مع قوى إقليمية ودولية منافسة، وأبرزها الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن أيضا مع الصين وروسيا. وقد سعت كاترين كولونا وزيرة الخارجية الفرنسية لاحتواء الجدل بفرنسا حول هذا الموضوع عبر تصريحاتها على قناة "بي اف ام تي في" الفرنسية قائلة: "إنه جدل سيئ، جدل في غير محله على الإطلاق". وأضافت "أن المغرب لم يرفض أي مساعدة أو أي عرض. لا يجب تقديم الأمور على هذا النحو"، مؤكدة أن "المغرب يتمتع بالسيادة" وأنه "وحده قادر على تحديد احتياجاته ووتيرة حصوله على المساعدات". ولدعم موقفها على الأرض أعلنت باريس تخصيص مساعدة بقيمة خمسة ملايين يورو لدعم المنظمات غير الحكومية الناشطة حاليا "على الأرض"، كما قالت كولونا.
بينما يخالف بيار فيرميرين المؤرخ والأستاذ في جامعة السوربون، رأي الوزيرة كولونا ويرى بأن ما يحدث "علامة سياسية واضحة" على الفتور بين البلدين، مشيرا بمرارة إلى تقديم الإسبان والبريطانيين على حساب الفرنسيين رغم أن المهمة قد تكون أسهل لهم على الأرض. وبالنسبة للخبير الفرنسي فإن الأمر يتعلق برسالة سياسية من الرباط، موضحا "نعرف دبلوماسية محمد السادس"، فهو" يحب تمرير رسائل وتوجيه ضربات واضحة ليبلغ بانه غاضب".
هل هنالك تحفظ مغربي على مساعدات ألمانيا؟
كما تُطرح تساؤلات حول مآل عروض المساعدات الألمانية، وإن كانت ليس بنفس الحدة المثارة في الجزائر أو فرنسا. إذ تثير وسائل إعلام ألمانية تساؤلات حول خلفيات عدم إعطاء الرباط موافقة فورية لفرق الوكالة الألمانية للإغاثة الفنية THW في مرحلة أولى لتقديم مساعدات في أعمال انتشال المصابين والقتلى وفي مرحلة ثانية لإقامة محطة لمعالجة مياه الشرب لإمداد سكان المناطق المنكوبة.
ورغم أن الخارجية الألمانية لاحظت الاثنين 11 سبتمبر أيلول أنه "حتى الآن لم يتم الأخذ بعروض المساعدة هذه"، إلا أن المغرب شكر ألمانيا على العرض. وسعت الخارجية الألمانية للتقليل من أهمية عدم قبول المغرب على الفور لعروضها لتقديم المساعدات. واعتبرت بأن ألمانيا لا ترى ما يشير إلى أن قرار المغرب كان سياسيا لأنها تعلم من واقع خبرتها مع الفيضانات القوية التي تعرضت لها في عام 2021 أن تنسيق المساعدات مهم لتجنب عرقلة فرق الإنقاذ لجهود بعضها البعض. من جهته يبدي كريستوف جونن المسؤول في الصليب الأحمر الألماني تفهما لموقف المغرب، وأوضح لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ": "أن العديد من الدول مرت بتجارب سيئة مع المساعدات الدولية".
ويمكن أن يُفهم من إشارات الدبلوماسية الألمانية وخصوصا رئيستها أنالينا بيربوك التي تعتبر مهندسة إعادة تطبيع علاقات البلدين بعد عامين من الفتور، بأن برلين تود تفادي أي تداعيات سلبية لملف المساعدات الموجهة للمتضررين من الزلزال والتركيز على عوامل تمتين العلاقات مع المغرب التي ترى فيه شريكا استراتيجيا رئيسيا بشمال أفريقيا.
بيد أن مراقبين يلفتون إلى أن ما شهدته العلاقات من مسار تطوير وبناء شراكة استراتيجية وملامح تحول "إيجابي" -تراه الرباط - في موقف برلين من ملف الصحراء، ربما تعرض في الأسابيع القليلة الأخيرة لانتكاسة على خلفية قضية المواطن المغربي الذي تمت محاكمته مؤخرا بتهمة التجسس على نشطاء معارضين في ألمانيا.
ويعتقد محللون بأن المساعدات الألمانية لا تواجه تحفظا مغربيا، بل يتعين النظر إلى الموضوع من زاوية أشمل، إذ أن المغرب ربما ينتظر من أن يكون لألمانيا دورا أساسيا في مرحلة إعادة إعمار المناطق المنكوبة.
كما أن دولا أخرى حليفة للمغرب مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وشركاء مثل الاتحاد الأوروبي وتركيا وإيطاليا والصين وروسيا، ينتظرون دورهم لتقديم المساعدة. ويبدو أن المغرب يعد في هذا السياق، خطة شاملة لإعادة إعمار المناطق المنكوبة سيعرضها في اجتماع للبنك الدولي الشهر المقبل بمراكش.
أي رسالة إلى سكان المناطق المنكوبة؟
بينما تتواصل جهود الإنقاذ والإسعافات عن كثب في المناطق المنكوبة، يتطلع سكان تلك المناطق إلى أربعة رسائل واضحة.
أولها: النجاعة والسرعة في إنقاذ العالقين تحت الأنقاض وإسعاف المصابين. وسواء جاءت تلك المساعدات من هيئات حكومية مغربية، أو هيئات غير حكومية أو متطوعين أو هيئات أجنبية من أكثر من 60 دولة، فإن المتضررين لا يهمهم كثيرا في هويتها أو الحسابات السياسية التي قد تلعب دورا فيها، بقدر ما يهمهم تيسير وتسريع وصول المساعدات من أجل الحفاظ على أرواحهم وأرواح ذويهم ومنحهم مساعدات عاجلة وحيوية من أجل سلامتهم وصحتهم.
ثانيها: أن سكان المناطق المنكوبة سيفتحون أعينهم بعد هول صدمة الزلزال، على قراهم وبلداتهم ومساكنهم المنهارة، وأسرهم الممزقة، وأحوالهم النفسية الصعبة، وممتلكاتهم المدمرة، عندها سيكونون بحاجة إلى إجابات واضحة حول مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
وهنا يُطرح سؤال أساسي حول استراتيجية الدولة بمساعدة شركائها في الخارج، في إعادة بناء المناطق المنكوبة وإعادة تأهيل وإدماج السكان في مرحلة ما بعد الزلزال التي لن تكون حتما مثل ما قبل الزلزال، خصوصا أن معظم المناطق المتضررة كانت أصلا تعاني من الفقر والتهميش عن برامج التنمية والأموال المرصودة في خطط الدولة منذ سنوات.
ثالثا: ثمة ملاحظات وانتقادات عديدة يوجهها سكان عدد من المناطق المنكوبة ونشطاء المجتمع المدني المحلي حول أداء السلطات وفرق الإنقاذ في الأيام الثلاثة الأولى بعد الزلزال، وهي مصيرية بالنسبة لحياة المئات الذين قضوا أو الذين ما يزالون عالقين، ويقتضي تقييم أداء إدارة الأزمة شفافية وجرأة، وهو ما يتوقع أن تُسلط عليه الأضواء من قبل وسائل الإعلام ومنتديات المجتمع المدني في الفترة المقبلة.
رابعا: يمكن رصد رسائل تضامن قوية مع ضحايا زلزال الأطلس الكبير، من قبل مختلف أطياف الشعب المغربي والمتطوعين المحليين والأجانب وهيئات المجتمع المدني المحلي والأجنبي ودول ومنظمات إقليمية ودولية من مختلف أنحاء العالم، وأحرى التقاط هذه الرسائل وتحويلها إلى قوة دفع كبيرة معنوية ومادية لتبديل أحوال المنكوبين وانتزاعهم من براثن الصدمة والحزن والرعب وبسط رداء التفاؤل والأمل أمامهم.
منصف السليمي