لماذا لا يتحمل الاقتصاد اللبناني استمرار قطع الطرقات؟
١٦ نوفمبر ٢٠١٩لا يملك المرء سوى التعاطف مع اللبنانيين المحتجين سلميا من أجل لقمة عيشهم ومكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة. كما لا يملك سوى التعاطف مع أولئك الساعين منهم إلى تغيير نظامهم الطائفي وتحويله إلى نظام علماني يحقق تكافؤ الفرص لكل اللبنانيين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية. غير أن المرء لا يستطيع التعاطف مع المتظاهرين العنيفين الذين يقطعون الطرقات الحيوية في البلاد بشكل متعمد منذ حوالي شهر، ليس أمام المسافرين وحسب بل وأمام الحالات الإنسانية الطارئة كالذهاب إلى مستشفى أو إيصال الامدادات من الطعام والدواء والوقود وغيرها. وهذا ما شهدته مؤخرا خلال سفري إلى سوريا والعودة منها عبر بيروت.
فالسفر من المطار برا باتجاه الشمال إلى اللاذقية السورية أو شرقا إلى العاصمة دمشق لم يكن ممكنا دون تحمل مخاطر لا يريد أي مسافر عاقل تحملها. وقد أخبرني صديق من مطقة برمانا القريبة من بيروت على الهاتف أنه لا يستطيع الوصول إلى المطار من منطقته لتقديم أية مساعدة لي.
هدوء يثير الريبة
أما مطار بيروت الوحيد لكل لبنان وله عبر العالم نفسه فبدا خاليا إلا من المسافرين العالقين وغالبيتهم من السوريين. ويمكن استقراء ذلك من فرانكفورت الألمانية بعد إقلاع الطائرة بعدد ركاب لا يتجاوز الثلث حسب المضيفة التي ذكرت بأنها لم تشهد مثل هذا العدد القليل من قبل. وإذا ما أراد المرء في مطار العاصمة اللبنانية سحب نقود، فإن الصرافات الآلية لا تعمل بسبب توقف خدمات البنوك. وأمام المطار الذي كان يعج بالحركة، لا يقطع الهدوء الذي يثير الخوف والريبة سوى المسافرين العالقين الذين افترشوا الأرصفة، لأن المطار في الداخل لا يستوعبهم. وهناك تتراكم طوابير من سيارات التاكسي التي ينتظر أصحابها الفرج وعلامات القلق على وجوههم. وخلال حديث مع أحد السائقين ذكر بأنه ينتظر منذ 6 ساعات دون أي طلب واحد لكسب ما يساعده على تأمين قوت عائلته وأطفاله. "إنها حالة ترعبني"، قال السائق وقد بدت علامات الجزع على وجهه.
حساسية الاقتصاد اللبناني الشديدة
الخطير في الأمر أن لبنان يعتمد بشكل أساسي في اقتصاده على السفر والسياحة والخدمات التي تشكل الخدمات المصرفية أبرز قطاعاتها. ومن المعروف أن اقتصادا كهذا حساس للغاية إزاء الاضرابات وقطع الطرقات وإغلاق البنوك لفترة طويلة. وهو أمر يحتم إعادة شريان الحياة إليه عبر المطار الوحيد والطرقات الدولية. هنا وعلى خلفية ذلك لا بد من التوضيح بأن بنية الاقتصاد اللبناني لم تتغير رغم الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة، لاسيما وأن القروض والمساعدات الأجنبية والخليجية ساعدت في الحفاظ عليها.
وبغض النظر عما يُقال بحق النظام المصرفي اللبناني وبنوكه، فإن تعافي لبنان من جروح الحرب الأهلية العميقة بين عامي 1975 و 1990 اعتمد على كفاءة هذا النظام، لأنه بقي حتى في أوج سنوات الحرب البغيضة موضع ثقة المستثمرين ورجال الأعمال اللبنانيين وغيرهم، بسبب سريته وملاءته وفوائده العالية. فالسوريون على سبيل المثال يضعون لوحدهم في هذه البنوك حسب تقديرات غير رسمية حوالي 20 مليار دولار. ويحول المغتربون اللبنانيون إليها سنويا من 6 إلى 10 مليارات دولار منذ عام 1914 وقبل ذلك كانت التحويلات أعلى بكثير. هذه المليارات ومليارات أخرى وخاصة من منطقة الخليج تأتي إلى لبنان أيضا بفضل الفوائد العالية التي كانت حتى عهد ليس ببعيد بحدود 8 بالمائة في وقت كانت فيه أفضل معدلات الفائدة عالميا أقل من النصف.
كيف وصلت البلاد إلى حافة الهاوية
بعد الحرب الأهلية بالغت الحكومات اللبنانية المتعاقبة في سحب القروض من أجل إعادة الإعمار. لكن الواقع يقول إن جزءا كبيرا، إن لم يكن الأكبر من هذه الأموال، ذهب ضحية عمليات فساد أبطالها النخبة السياسية الطائفية والحاكمة. أما تبعات ذلك فلم تقتصر على دين عام يتجاوز 150 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 57 مليار دولار، بل وصل إلى حد إفقار غالبية اللبنانيين من خلال فرض ضرائب ورسوم جديدة دون توقف للمساعدة في تحمل أقساط وفوائد الدين العام.
ووصل الأمر بالحكومة اللبنانية التي ترأسها الحريري حتى قبل أيام إلى محاولة فرض رسوم على خدمة لا تقدمها هي وهي خدمة "واتساب" العالمية للتراسل، بدلا من اتخاذ إجراءات لمكافحة الفساد الذي أكل الأخضر واليابس في بلاد يفترض أن تكون بين أفضل الدول في مستوى الدخل. ويبدو أن محاولة الحكومة هذه كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وهكذا خرج اللبنانيون بالآلاف من كل الطوائف والأعراق للاحتجاج والإضراب ضد حكومتهم ونخبتهم التي عاثت فسادا وأوصلتهم إلى حافة الهاوية.
الاحتجاجات محقة ولكن..
إن احتجاجات اللبنانيين مطلب حق، ولكن بدون تخريب وتعطيل للممتلكات والمصالح العامة والخاصة. فالوضع في بلاد الأرز منهار بالأصل ولا يحتاج في هذا الوقت الخطير والحساس إلى مزيد من الخراب، لاسيما وأن استمرار الوضع الحالي يقود إلى هروب ما تبقى من الأموال وتوقف القروض والمساعدات، ويؤدي إلى مزيد من تدهور العملة اللبنانية وإلى تخريب ما تبقى من الزراعة والصناعات بسبب تقطيع أوصال البلد.
وتقدر خسائر القطاع الزراعي التجارية اليومية لوحدها بأكثر من نصف مليون دولار. أما خسائر لبنان الاقتصادية ككل فتقدر يوميا بنحو 700 مليون دولار حسب البنك الدولي. هذا ويذكر الوضع الحالي حسب وزير الدفاع اللبناني ببدايات الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و 1990 في بلد كان يضرب المثل بازدهاره لدرجة إطلاق تسمية "سويسرا الشرق" عليه. وعليه فإن على المحتجين والمتظاهرين حتى تحقيق مطالبهم المحقة الحرص على فتح الطرقات الرئيسية وصياغة مطالبهم المحقة كي يتم التفاوض مع الجهات المسؤولة عن تحقيقها. وقد يكون الاتفاق على رئيس وزراء جديد يبدأ بمشروع لتفعيل القضاء ومحاربة الفساد خطوة نحو تجنب ما لا تريده غالبية اللبنانيين والحريصين على الأمن وتحسن الوضع الاقتصادي والحالة المعيشية في بلادهم.
ابراهيم محمد