تحليل: هل أضحت ألمانيا على أبواب صدمة في سوق الغاز؟
٢١ يونيو ٢٠٢٢مع تقليص إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا خلال الأسبوع الفائت بنسبة 40 بالمائة، أصبح الاقتصاد الألماني أمام أزمة طاقة خطيرة تُذكّر بصدمة النفط التي حصلت بعد حرب أكتوبر/ تشرين 1973. يومها حظر العرب ضخ النفط إلى الغرب بشكل جزئي أدى إلى انهيار البورصات وارتفاع معدلات التضخم بنسب مخيفة وتوقيف سير جزء من وسائط النقل يوم الأحد. واليوم تواجه ألمانيا وأوروبا أكثر من هذه المخاطر ليس بسبب تراجع إمدادات الغاز وحسب، بل أيضا بسبب تبعات الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا التي لم تذهب إلى غير رجعة بعد.
العقوبات الغربية ودورها في المشكلة
جاء تقليص الإمدادات الذي شمل فرنسا وإيطاليا كذلك بعدما أعلنت شركة الغاز الروسي العملاقة غاز بروم أنها غير قادرة على ضخ الغاز بالطاقة الاستيعابية لأنبوب "نورد ستريم 1" بسبب تخلف شركة سيمنس الألمانية عن صيانة توربينات أساسية لضخ الغاز بسبب العقوبات الأوروبية ضد الشركات الروسية. وفي الوقت الذي تستمر فيه هذه المشكلة التقنية بسبب العقوبات وفق مصادر ألمانية أيضا، فإن ألمانيا ترى بأن وراء المشكلة دوافع سياسية على حد تعبير وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني روبرت هابيك المنتمي إلى حزب الخضر. وقال هابيك " إن رواية الجانب الروسي بشأن المعطيات التقنية صحيحة، غير أن استغلال هذه المعطيات لا يقود إلى التداعيات الحتمية التي نراها الآن".
أرقام التضخم المرعبة!
يؤدي التقليص التدريجي لإمداداتالغاز الروسي إلى مزيد من الارتفاع في أسعار الغاز كمصدر طاقة حيوي للصناعات الأساسية الألمانية، وفي مقدمتها التعدين والكيماويات والأجهزة العالية الدقة. فخلال الأسبوع الفائت لوحده ارتفعت هذه الأسعار بنسبة زادت على 40 بالمائة ليصل سعر الألف متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أكثر من 1500 دولار في السوق العالمية. وهو الأمر الذي يرفع تكاليف الإنتاج وأسعار مختلف السلع الاستهلاكية ويزكي نيران التضخم التي وصلت خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى معدلات غير مسبوقة في دول الاتحاد الأوروبي. ففي ألمانيا على سبيل المثال سجلت نسبة التضخم خلال الفترة المذكور معدلات وصلت إلى نحو 9 بالمائة، وهذا رقم مرعب في بلد ظل طوال العقود الأربعة الماضية مثالا للاستقرار المالي و"السياسات المالية المحافظة"، حسب تعبير المحلل السياسي البريطاني كليفر كروك الكاتب السابق في فاينانشال تايمز البريطانية.
ألمانيا الأكثر تضررا
وفي ظل هذا التضخم المتسارع والمفتوح على مصراعيه يزداد عدد الأسر والأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل ارتفاع تكاليف حاجاتهم الأساسية اليومية كالأغذية والكهرباء والغاز والنقل، رغم تقديم الحكومة الألمانية بعض التسهيلات المالية والمعونات لأصحاب الدخل المحدود. وعلى صعيد الشركات تكمن المشكلة في ارتفاع تكاليف المنتجات الصناعية الألمانية التي يذهب القسم الأكبر منها إلى التصدير للخارج. فمع هذا الارتفاع تفقد هذه المنتجات ميزتها التنافسية مقارنة بمثيلاتها الصينية والآسيوية الأخرى الأقل تأثرا بارتفاع تكاليف الطاقة. وتشكل الصادرات أحدة أعمدة ازدهار ألمانيا منذ عقود طويلة، إذ يعادل حجمها أكثر من 40 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية. فخلال العام الماضي 2021 على سبيل المثال بلغت قيمة الصادرات الألمانية 1630 مليار يورو مقابل 3571 مليار يورو ناتج محلي إجمالي.
وتعد ألمانيا الأكثر تضررابين دول الاتحاد الأوروبي من تقليص إمدادات الغاز الروسي، كونها تعتمد على روسيا في استيراد 55 بالمائة من احتياجاتها، في حين يعتمد الاتحاد الأوروبي عليها بنسبة 40 بالمائة. ومن شأن استمرار تقليص الإمدادات نفاذ الغاز اللازم للتدفئة بحلول منتصف الشتاء القادم. وفي حال تم وقف الإمدادات الروسية بشكل نهائي، فإن ألمانيا ستكون أمام صدمة خطيرة في سوق الغاز لم تعرفها من قبل، لاسيما وأن الصناعات الأكثر أهمية تعتمد في تشغيلها عليه كمصدر لطاقتها.
الخضر وسخرية الأقدار
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا تفعل الحكومة الألمانية لمواجهة الخطر المحدق بالاقتصاد الألماني ومستوى معيشة الألمان على ضوء التضخم المرتفع الذي يؤجج نيرانه تراجع إمدادات الغاز؟ وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني روبرت هابيك أعلن عن اتخاذ عدة تدابير طارئة من أبرزها: تقليل استخدام الغاز في توليد الطاقة الكهربائية وتخصيص 15 مليار يورو إضافية لشراء الغاز المسال من أجل الاحتياطي اللازم لفصل الشتاء. ومن سخرية الأقدار أن الوزير المنتمي إلى حزب الخضر يريد تقليل الاعتماد على الغاز في توليد الكهرباء عن طريق زيادة دور محطات الطاقة التي تعمل على الفحم، رغم أنها المصدر الأكثر تلويثا للبيئة. ومما يعنيه ذلك نكوص الحكومة الألمانية عن الوفاء بوعدها القاضي بالتخلي عن الفحم بحلول عام 2030. وسبق لحزب الخضر أن كافح لعقود من أجل هذا التخلي بسبب إضراره بالبيئة.
ومن الإجراءات الأخرى الطارئة التي تريد الحكومة الألمانية التركيز عليها إطلاق حملة واسعة تستهدف عامة السكان والشركات لتقليل استهلاك الغاز والكهرباء. وفي هذا الإطار وجهت دعوات إلى المواطنين لتقليل الاستحمام بالمياه الساخنة. غير أن مثل هذه الدعوات تلاقي انتقادات لاذعة لا تخلو من السخرية، لأن الحمام الساخن لا يلعب دورا مهما في الحد من نقص مصادر الطاقة. أما بخصوص الشركات فهناك توجه لإنشاء نظام مزادات للصناعيين الذين يستهلكون الغاز على أساس استدراج عروض وتقديم مكافآت للذين يقللون استهلاكهم من الغاز. غير أن تحول الشركات إلى الاعتماد على مصادر أخرى غير الغاز ليس بالأمر السهل، لأن المصادر البديلة مكلفة أيضا، وعملية التحول لاستخدامها تتطلب تغييرات تقنية واستخدام معدات وأجهزة جديدة يحتاج شراؤها وتركيبها إلى أشهر وأحيانا إلى سنوات.
على الجميع التضحية
تبدو الحكومة الألمانية على ضوء تدهور الوضع في سوق الطاقة في وضع لا تُحسد عليه. أما الإجراءات الطارئة التي تريد اتخاذها، فيمكنها التخفيف من حدة المشكلة دون حلها. أما الإجراءات الطويلة الأجل فمن المبكر الحكم عليها كونها لا تزال في طور التخطيط والبناء. وفي كل الأحوال فإن على الجميع التضحية في ألمانيا لتجنب تدهور الاقتصاد وإفلاس الشركات والحفاظ على الوظائف وعلى مستوى الحياة لأصحاب الدخل المحدود بشكل يقيهم العوز.
إبراهيم محمد