تونس - مبادرة لاتحاد الشغل وسط أزمة "تضرب جيوب المواطنين"
٢٦ يناير ٢٠٢٣مع انقضاء عشرين يوما فقط من شهر يناير/ كانون الثاني، تجاوز إجمالي الفواتير التي اضطر حمدي إلى استخلاصها خمسة آلاف دينار، من بينها فاتورة استهلاك كهرباء غير اعتيادية، أرسلتها شركة الكهرباء والغاز تتجاوز قيمتها الألف دينار.
ضغط المصاريف لم يأت بنتيجة!
مقارنة بالعام السابق لم يتجاوز محل حمدي، المخصص لبيع لحوم الدجاج والتونة والمنتجات المعلبة، نصف استهلاك العام الجديد والسبب في ذلك مراجعة الشركة المملوكة للدولة لتسعيرات الاستهلاك الموجهة للتجار وبدرجة أقل المساكن الخاصة، وهي خطوة ضمن خطط أوسع للحكومة من أجل خفض تدريجي لأعباء الدعم الموجه لقطاع الطاقة.
جاءت فاتورة الكهرباء لتكون بمثابة القشة الأخيرة، بعد سلسلة من الانتكاسات المتتالية، التي يعاني منها حمدي الفرشيشي منذ تفشي جائحة كورونا في 2020 وتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد بعد ذلك. ويقول الشاب الثلاثيني بسخط في حديثه لـDW عربية: "أعمل بدوام كامل لوحدي في المحل ومن دون عامل مُعِينٍ من أجل ضغط المصاريف؛ لكن الأسعار تزيد بسرعة لدى المزودين وأسعار البنزين أيضا وفي المقابل يتناقص هامش الربح شيئا فشيئا".
في ظل تناقص المداخيل فإنه يتعين على حمدي، مثل آلاف غيره من صغار العاملين في القطاع الحر، عدم التخلف شهريا عن سداد القرض البنكي حتى يحافظ على شاحنته الصغيرة لنقل السلع. ومن هنا بدأت مخاوفه تتضاعف مع اضطراره لضخ المزيد من السيولة من رأس المال للصمود وانتظار انفراجة قد تأتي وقد لا تأتي، وفق تعبيره. ويضيف بنبرة مرتعشة: "نأمل أن تتغير الأوضاع مع حلول شهر رمضان وإلا فإننا نتجه إلى الحائط".
حمدي ليس هو وحده من يعاني. فآلاف من صغار التجار والحرفيين وأصحاب الأعمال الحرة يجدون أنفسهم في قلب العاصفة منذ بدء إقرار الزيادات في فواتير استهلاك الكهرباء في أيار/ مايو 2022 بنسب تتراوح بين 12 و16 بالمئة بجانب الزيادات الدورية للمحروقات والتي بلغت خمس زيادات في عام واحد فقط هو عام 2022.
تراجع ضخم في تعاملات المؤسسات الصغرى والمتوسطة
في منطقة "المروج" جنوب العاصمة يكافح أيضا مراد القاسمي، مثل كثيرين من أصحاب المطاعم المجاورة، للإبقاء على مطعمه ومورد رزقه رغم التراجع اللافت في عدد الزبائن، وإدارة الأزمة عبر خفض الخسائر إلى أدنى مستوى بدلا من خسارة كل شيء.
بنى مراد خطته بالتخلي عن الأطباق المكلفة والاتجاه أكثر الى الأطباق الشعبية الرخيصة لكن هاجسه الأول يتمثل في التوصل إلى جدولة ديونه الضريبية وديون الطاقة مع شركة الكهرباء، بعد أن فاقت متخلداته السابقة بسبب تراكم الفواتير، الخمسة آلاف دينار.
ولا يُخفي مراد غضبه من الوضع المعقد الذي تردى فيه لكنه لا يملك خيارات كثيرة للاستمرار. ويعلق على ذلك في حديثه مع DW عربية: "اذا تخليت عن كل شيء فسأكون أمام خطر دخول السجن. يتوجب علي استخلاص شيكات شهريا والتوصل إلى حل مع شركة الكهرباء وإلا فإن المجهول سيكون في أول المنعطف".
وفي حين تكشف بيانات المنظمة الوطنية لرواد الاعمال تراجعا في رقم معاملات المؤسسات الصغرى والمتوسطة بنحو 70 بالمئة تحت وطأة الازمة، فإن آمال كل من حمدي ومراد وغيرهما في تحسن الأوضاع تبقى معلقة لأن كلفة المعيشة زادت بشكل كبير في خلال عامين فقط وباتت وطأتها أشد على الطبقة الوسطى والضعيفة ما أضر بشكل مباشر بالقدرة الشرائية.
وبدأت بالفعل أوائل ملامح الغضب في الولايات الداخلية تطفو بالشوراع مع خروج احتجاجات ليلية في القصرين انتهت بإيقاف الأمن لمحتجين بينما بدأت أعراض التململ تظهر من حين إلى آخر في الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة.
وبموازاة ذلك تستعد شرائح مختلفة من الطبقة العاملة في تونس لاضرابات عامة في شهر كانون الثاني/ يناير تشمل أساسا قطاعات النقل والتعليم بسبب تدني الأجور وتدهور ظروف العمل في الشركات العامة، في ظل تقادم التجهيزات، كأسطول الحافلات وتداعي البنية التحتية للمؤسسات التعليمية العامة. ناهيك عن الاحتجاجات المتكررة للعاملين في قطاع الصحة العمومية.
ويقول حمدي لـDW عربية: "الأزمة ضربت جيوب المواطنين. من يأتي إلى المحل يكتفي بشراء قطعة أو قطعتين من الدجاج ويغادر. الغلاء جعل الجميع يعيش بالحد الأدنى. إذا ما قارنا الوضع قبل الجائحة فإن مرابيح المحل تراجعت اليوم بنحو 75 بالمئة والأداءات لا تتوقف عن الزيادة".
ليبيا كسند لتونس!
ويعكس الواقع حرفيا ما ذهب إليه حمدي، فقد ألقت الحرب الروسية في أوكرانيا بظلالها بقوة على الأسواق في تونس حيث تندر المواد الاستهلاكية الأساسية مثل الحليب والأرز والسكر والقهوة بجانب اضطرابات متكررة في التزود بالمحروقات وسط ارتفاع غير مسبوق للأسعار. ويتهم الرئيس قيس سعيد في خطاباته المضاربين والمحتكرين بتعميق الأزمة لكن الخبراء يشيرون إلى أسباب أعمق، من بينها شكوك في مدى قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية مع المزودين الدولين.
ومن المفارقات أن تونس وجدت في الجارة ليبيا، الغارقة في الانقسامات، سندا لها مع تلقيها مساعدات غذائية لسد النقص في الأسواق بعد أسابيع من تلقيها شحنة محملة بـ30 ألف طن من البنزين كمساعدات من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
"مبادرة إنقاذ" وسط مناخ متوتر
لكن الضغوط لا زالت مستمرة على الحكومة التونسية في الداخل والخارج، في وقت تسعى فيه إلى التوصل إلى اتفاق طال انتظاره مع صندوق النقد الدولي من أجل البدء بصرف أقساط قرض بقيمة 9ر1 مليار دولار مقابل التقيد بحزمة إصلاحات عميقة تشمل التحكم في كتلة الأجور ومراجعة نظام الدعم وإصلاح المؤسسات العمومية المتعثرة من أجل إنعاش المالية العمومية ودفع النمو الاقتصادي.
وبينما يشترط الصندوق، الذي أرجأ مرتين بين كانون الأول/ ديسمبر الماضي وكانون الثاني/ يناير الجاري البت في مصير القرض الموعود لتونس، أن يكون هناك إجماع بين السلطة والشركاء الاجتماعيين حول خطط الإصلاح، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل ذا النفوذ القوي أبدى اعتراضا على الاتفاق المبدئي بين الحكومة والصندوق. وفي مقابل ذلك يسعى إلى طرح "مبادرة إنقاذ" مع باقي المنظمات الوطنية مستفيدا من نفوذه التاريخي، ووصل الأمر إلى حد التلويح بخوض "معركة وطنية".
ويقول عضو المكتب التنفيذي للمنظمة النقابية فاروق العياري في حديثه مع DW عربية: "تاريخيا الاتحاد مرّ بأوضاع صعبة ومشابهة للظروف الحالية بسبب طبيعة العمل السياسي والمناخ الاجتماعي في البلاد. الاتحاد متعود وقد تلقى تطعيمات... وضع البلاد دخل في منعرج سيء. لن نبقى مكتوفي الأيدي، يعني ذلك أن خطواتنا ستكون في مصلحة الشعب أولا ولن ندخل التجاذبات السياسية".
مع ذلك أوضح العياري أن مبادرة الاتحاد مع المنظمات ستشمل أيضا الوضع السياسي في البلاد، في إشارة إلى سلطة الرئيس قيس سعيد المهيمنة والمثيرة للجدل منذ إعلانه التدابير الاستثنائية في البلاد في 25 تموز/ يوليو 2021، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الشائك والوضع الاجتماعي المتوتر، دون أن يستثني العياري مشاركة الأحزاب في التفاعل مع المبادرة.
أزمة مفتوحة
لكن الأزمة في تونس تظل مفتوحة على الكثير من الاحتمالات غير المتوقعة، فالرئيس قيس سعيد لم يصدر منه أي تعليق بشأن المبادرة كما أنه ليس واضحا مدى قدرة المبادرة نفسها على استقطاب مؤيدين لها في الشارع ولدى الرأي العام ومدى تأثيرها على المفاوضات الجارية مع صندوق النقد.
ويرجع الخبير الجامعي في الاقتصاد رضا الشكندالي مماطلة صندوق النقد في الموافقة النهائية على القرض إلى هذه النقطة بالذات، وهو الافتقاد إلى التوافق بين السلطة والشركاء الاجتماعيين وفي مقدمتهم الاتحاد العام التونسي للشغل ما يفقد تماما الضمانات الملائمة لتنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها الصندوق على الأرض.
ويقول الشكندالي لـDW عربية: "غياب التوافق عطل أيضا إمكانية تعبئة الموارد المالية من الدول الصديقة بسبب المخاوف من الوضع الداخلي. كما أن الخطأ الأول هو عدم إشراك السلطة للاتحاد وباقي الأطراف المعنية في صياغة قانون المالية الجديد الذي يمثل بداية الإصلاحات".
لكن الخبير يعيب أيضا على الاتحاد أنه لم يضع شرط الإبقاء على الدعم عند المفاوضات على الأجور مع الحكومة وموافقته على زيادة هزيلة ما بين 3 و5 في المائة في الأجور لا تمكن التونسيين من مجاراة نسق الزيادات المتسارعة في الأسعار.
أما بشأن مبادرة الإنقاذ فإن الشكوك، وفق الخبير، تحوم حول الخبراء الاقتصاديين، الذين سينتقيهم الاتحاد لصياغتها وتحديدا فيما يرتبط بميولاتهم الإيديولوجية، وهو ما يضع كل الاحتمالات في طريقها.
لكن في حال أي تعثر محتمل، أوضح القيادي في الاتحاد فاورق العياري لـDW عربية أن "سلطات القرار ستجتمع في الاتحاد داخل الهيئة الادارية والمكتب التنفيذي وهي التي ستحدد الخطوات التالية التي تراها مناسبة لتفعيل الأفكار وتوجهات الاتحاد"، مضيفا "هذه هي المعركة الوطنية".
تونس - طارق القيزاني