تونس: صدور حكم في قضية إغتيال بلعيد - مصالحة أم نكأ للجراح؟
٣٠ مارس ٢٠٢٤شملت الأحكام التي أصدرتها المحكمة الإبتدائية في تونس 23 متهما من بينهم 14 موقوفا في السجن وتسعة بحالة سراح، ونصت على عقوبة الاعدام ضد اربعة متهمين والسجن مدى الحياة ضد متهمين اثنين بينما تراوحت باقي الأحكام بالسجن لمدة تتراوح بين العامين و120 عاما. وسيخضع متهمون آخرون إلى العقوبة الإدارية بين ثلاثة وخمسة أعوام. كما أخلت المحكمة سبيل خمسة متهمين.
يُنظر إلىقضية شكري بلعيد القيادي اليساري التونسي، على مدى سنوات ومنذ بداية تحريكها في 2013، كساحة معركة سياسية بامتياز مرسخة لحالة الإنقسام المتجددة بين الإسلاميين من جهة وتيار أقصى اليسار والمتضامنين معهم من جهة أخرى. ويقول رشيد خشانة الكاتب والمحلل المتخصص في الشؤون المغاربية ونائب رئيس "الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية" في تونس، لـDW عربية، إن كل طرف سياسي، بما في ذلك هيئة الدفاع والحقوقيين أيضا، يحاولون أن يجعلوا من الأحكام الصادرة عن القضاء مكاسب لهم.
إغتيال بلعيد كان منعطفا
اغتيل شكري بلعيد وهو محام وسياسي معارض محسوب على تيار اليسار وذو توجهات قومية عروبية، بالرصاص على أيدي متشددين من أمام مقر سكنه قرب العاصمة واعتبر حتى ذلك الوقت المعارض الرئيسي لحكومة التحالف التي قادها إسلاميون حزب النهضة.
ولطالما كال حزبه "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" (الوطد) الذي كان بلعيد يتزعمه، الاتهامات المباشرة والصريحة لحركة النهضة الإسلامية بالتحريض على اغتياله، وفي الحد الأدنى بـ"المسؤولية السياسية" وراء ذلك، وهو ما ظلت الحركة تنفيه بشدة.
كانت وفاة بلعيد قد تسببت في اضطرابات خطيرة في البلاد واحتجاجات في الشوارع تزامنت مع تشييع جثمانه في جنازة مشهودة. قابلتها مسيرات مضادة داعمة للحكومة. لكن مع حادثة الاغتيال الثانية بنفس العام والتي ذهب ضحيتها السياسي والنائب في البرلمان محمد البراهمي عن "التيار الشعبي" القومي العربي، اضطر الاسلاميون في نهاية المطاف إلى التنحي عن الحكم تحت ضغوط كبيرة.
وجنب الحوار الوطني بين الفرقاء السياسين، الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل بمعية منظمات مجتمع مدني أخرى، البلاد حربا أهلية ليتم الاتفاق بتشكيل حكومة انتقالية حتى انتخابات 2014 التي صعدت بحزب "حركة نداء تونس" بقيادة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلى السلطة.
ارتياح لدى عائلة بلعيد
وفي حين يرى حزب حركة النهضة، المعني أكثر بالاتهامات بالمسؤولية السياسية عن الاغتيال، أن الاحكام القضائية تمثل بالنسبة إليه صك براءةلا غبار عليه فإن هيئة الدفاع عن بلعيد وحزبه "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" يعتبرون هذه الأحكام بمثابة البداية ليس إلا.
تلقت عائلة السياسي الراحل شكري بلعيد بارتياح صدور الأحكام، وهو الانطباع الذي بدر عن شقيقه عبد المجيد بلعيد الذي صرح لوسائل الإعلام المحلية بأن صدور العقوبات يعد أول خطوة ملموسة بعد 11 عاما من التقاضي واول تعامل جدي مع القضية، ما يعطي وفق رأيه أملا وثقة في استكمال باقي المسار القضائي.
لكن عبد المجيد بلعيد يأمل الذهاب إلى أبعد من الإدانات المعلنة، لتشمل الخصوم المباشرين للسياسي الراحل، وفي مقدمتهم قياديين من حركة النهضة الاسلامية، على رأسهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي يقبع في السجن منذ حوالي سنة على خلفية إتهامه في قضايا أخرى.
ويوضح المحامي والأمين العام لـ"حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد" المنجي الرحوي في حديثه مع DW عربية، بأن الأحكام تخص فقط المجموعة التي نفذت الاغتيال بينما لا تزال التحقيقات مفتوحة بشأن المجموعة التي قامت بالتغطية والمجموعة التي خططت، أي الجهة السياسية التي حرضت ودفعت إلى اغتيال بلعيد ويقول السياسي بحماس "ننتظر اكتمال المسؤولية الجزائية بالجهة السياسية التي حرضت".
وتستند المسؤولية السياسية وفق الأمين العام وهيئة الدفاع، الى المناخ العام الذي سبق عملية الاغتيال والذي وجهت من خلاله اتهامات لحركة النهضة الحاكمة انذاك، بالسماح بانتشار الفكر السلفي المتشدد مع جماعة "أنصار الشريعة" وتفشي موجة التكفير إلى جانب السماح بتوافد الدعاة المتشددين من الشرق العربي على البلاد وظهور قياديين من حركة النهضة ومن بينهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، في لقاءات مع البعض من أنصار الشريعة.
"رد اعتبار" للنهضة والغنوشي
على النقيض من ذلك تعتبر حركة النهضة اتهامات خصومها "مجانية ومضللة" ولا تستند إلى حقائق. وفي خطابات كثيرة لقيادييها، قدمت الحركة نفسها كأحد المكافحين للارهاب والتكفير، لجهة أن انصار الشريعة كان يهدد في ذروة نشاطه والعمليات الارهابية التي نفذها لاحقا، بنسف مسار الانتقال الديمقراطي برمته وإشاعة الفوضى في البلاد.
وحظرت الحركة عندما كانت تقود السلطة بين 2011 و2013، بالفعل أنشطة تنظيم "انصار الشريعة" الذي برز على الساحة بعد ثورة 2011 مستفيدا من مناخ الحرية، وصنفته تنظيما إرهابيا في آب/أغسطس عام 2013، أي بعد نحو شهر من حادثة الاغتيال الثاني التي راح ضحيتها السياسي والنائب في البرلمانمحمد البراهمي بنفس الطريقة على أيدي متشددين.
وفي تعليقه على الأحكام التي صدرت عن المحكمة يقول المتحدث باسم حركة النهضة والنائب السابق في البرلمان عماد الخميري لـDW عربية، إن "الاحكام ركن مادي وموضوعي وهي تنهي سنوات من الاتهامات المجانية من قبل اطراف سياسية لم تدر الصراع السياسي بديمقراطية واختارت الزج بالحركة في اتهامات خطيرة"، واستدل الخميري في تأكيد براءة حزيه، بأن المتهمين كانوا "صرحوا في كامل مراحل التحقيق أنهم الضالعون وأنهم هم من نفذوا وخططوا وهم الجهة المسؤولة".
ويعتقد الخميري أنه رغم صدور الأحكام، فإن الادعاءات لن تتوقف لدوافع ايديولوجية لكنه لفت إلى ان الحركة لن تبقى موكتوفة الأيدي وستثير دعاوي قضائية ضد كل يرميها بنفس الإداعاءات.
ولا تنظر حركة النهضة إلى الأحكام كواجهة قانونية وشرعية، لبراءتها من الاتهامات فحسب، ولكن أيضا دافعا قويا للمطالبة برد الاعتبار، وهو ما تضمنه بيان رسمي صدر عن حركة النهضة يدعو فيه ايضا إلى الافراج عن زعيم الحركة راشد الغنوشي، الموقوف منذ نحو عام في السجن في قضايا تتعلق بـ"الارهاب" و"فساد مالي" و"التحريض ضد السلطة"، وهي اتهامات نفتها الحركة واعتبرتها مفتعلة.
براءة أم إدانة؟
وفي كل الأحوال فإن الاحكام والعقوبات المعلنة وان كانت قد قطعت شوطا في كشف الحقائق الغامضة خلف واحدة أهم قضايا الاغتيالات السياسية في البلاد، فإنها ساهمت كذلك في تحريك مياه راكدة وفي إعادة الجدل القديم بين الاسلاميين وخصومهم. وتبدو معها قضية بلعيد أبعد من حسمها في هذه المرحلة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي رشيد خشانة لـDW عربية "من السابق لأوانه الحديث عن احكام نهائية ذلك أن ما صدر عن القضاء ستكون له استتباعات قانونية وتداعيات ليس على المستوى الوطني فقط ولكن أيضا على المستوى الدولي، لجهة أن القضية تتعلق بالارهاب العابر للدول".
ومن وجهة نظر خشانة، فإن صدور الأحكام كان ضروريا بعد طول انتظار. وكان من المهم ان تحسم الجدل سواء بتبرئة حركة النهضة أو بتوريطها". غير ان هذا لم يحسم بعد والحقائق لا تزال منقوصة.
ويعتقد خشانة أن القضية ستستمر في تأجيج الصراع طالما ان التحقيق مستمر، لا سيما مع تلقي المسار القضائي زخما ودفعة بعد التصريح بأولى العقوبات بحق المورطين في الاغتيال.
ويجعل هذا الواقع من "المصالحة" المعطلة منذ سنوات أمرا بعيد المنال، إذ تقف الأطراف السياسية المعنية بالصراع على طرفي نقيض حتى مع صدور العقوبات الأولى في قضية بلعيد.
فمن جهة يدرج المتحدث باسم حركة النهضة عماد الخميري في حديثه مع DW عربية، مسألة المصالحة ضمن أدبيات الحزب وفكره السياسي، وهو الخيار الوحيد وفق تقديره، للتعايش السياسي ونبذ "الاستئصال والاستبداد".
ومن جهة أخرى، يقر الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين منجي الرحوي لـDW بأن المصالحة ليست في وارد الحزب تماما، وان هذا الموقف لا يتوقف على حادثة الاغتيال فقط وإنما يتعداه إلى "الهوة" الكبيرة بين المدرستين. ويوضح الرحوي ذلك "نحن نختلف معهم جوهريا. نحن النقيض لهم في الخط الوطني وفي بناء الدولة المدنية".
وعلى الرغم من أن طبيعة الصراع السياسي اليوم في ظل سيطرة الرئيس قيس سعيد على السلطة، يأتي في سياق مغاير لما كان عليه الوضع من استقطاب حاد، بين الاسلاميين المتصدرين للحكم وخصومهم في فترة اغتيال بلعيد والبراهمي، فإن لا أفق واضح للمصالحة التي باتت أكثر تعقيدا.
ويعتقد رشيد خشانة أن ملف المصالحة كان يفترض أن يحسم خلال فترة تقصي "هيئة الحقيقة والكرامة" حول انتهاكات الماضي والتي أنهت أعمالها في 2018.