تونس ـ مراسيم قيس سعيد تُجهض آخر أحلام "ثورة الياسمين"
١٣ يناير ٢٠٢٣عجزت نخب الثورة التونسية في ترجمة الآمال الشعبية العريضة التي تولدت بعد انهيار نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فدخل أبناء الثورة في هرطقات ودوامات من نزاعات لا تنتهي، أدخلت الديموقراطية الناشئة في نفق مظلم.
إنها وضعية استغلها مهندسو الثورة المضادة وعلى رأسهم الرئيس قيس سعيد، الذي قدم مشروعا بديلا، يعد بإعادة تشكيل المشهد السياسي برمته وفق قاعدة تقوم على الشرعية الشعبية التي مكنته من فوز ساحق في انتخابات عام 2019. مشروع سياسي بدأ غامضا، قبل أن تتضح معالمه تدريجيا، بعدما استحوذ على معظم السلطات وحلّ البرلمان السابق، في خطوات اعتبرها ضرورية لإنقاذ تونس وإخراجها من مستنقع أغرقها فيه، وفق تصوره هو، سياسيون فاسدون يشكلون اليوم القوة الرئيسية المعارضة لنظامه.
شعبية سعيد تتآكل كل يوم على وقع سلسلة من المراسيم الرئاسية، حتى الدستور الذي طرح للاستفتاء لم يشارك فيه سوى 30% من الناخبين، فيما تراجعت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية نهاية العام الماضي بشكل مقلق.
الإعلام الألماني يتابع تطورات الوضع التونسي باهتمام كبير منذ عام 2011، برصد مظاهر تبخر مشروع ديموقراطي واعد تبخر كالسراب. موقع "شبيغل أونلاين" (13 فبراير/ شباط 2022) كتب بهذا الصدد معلقا: "تحولت تونس إلى نظام استبدادي منذ قرّر قيس سعيّد الاستئثار بالسلطات في صيف عام 2021 وعيّن لاحقا حكومة جديدة وعدل دستور 2014 وأقر انتخابات برلمانية جديدة. ومنذ ذلك الحين، تتّهم منظمات غير حكومية والمعارضة الأجهزة الأمنية باللجوء إلى أساليب تذكر بأساليب الدولة البوليسية كما كانت إبان الديكتاتورية التي فرضها في السابق زين العابدين بن علي".
شرعية الرئيس تتهاوى بعد الامتحان الانتخابي
لم تتعد نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أجريت في 17 ديسمبر/ كانون الأول 11.2 بالمئة، وهي النسبة الأدنى على الإطلاق منذ ثورة 2011، وهو ما اعتبره المراقبون نكسة لشرعية سعيّد. غير أن الأخير، يبدو وكأنه لا يبالي كثيرا بهذه النتائج التي حاول التقليل من شأنها، متحديا منتقديه الذين ينددون بتراجع الحريات في البلاد منذ استئثاره بالسلطة. وذهب سعيد إلى القول بأن "مشاركة بـ9 أو 12 بالمئة أفضل من الـ99 بالمئة التي كانوا يشاركون فيها وكانت تتهاطل برقيات التهاني من الخارج وتعلم تلك العواصم أن تلك الانتخابات مزورة".
واعتبرت الأحزاب السياسية الكبرى المنضوية ضمن التكتل المعارض "جبهة الخلاص الوطني" التي تضم حزب النهضة وخصمه اللدود الحزب الدستوري الحر، أن الرئيس قيس سعيد لم تعد لديه الشرعية، ويتعين عليه بالتالي التنحي، متهمة إياه بتنفيذ انقلاب ضد الديمقراطية منذ استحواذه على معظم السلطات وقيامه بحل البرلمان والحكم بمراسيم.
"صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية (الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2022) علقت على تلك الانتخابات وكتبت "لقد حلم التونسيون بالديموقراطية فاستيقظوا على ديموكتاتورية، كانوا مشبعين بالأوبامية، (نسبة إلى الرئيس وفق شعار: "ييس ويكان" أي يمكننا فعل ذلك)، وبدلاً من ذلك بات التونسيون يتنفسون الأردوغانية بمعنى: أنا السلطان. (...) انتهى كل شيء، كل شيء نُسي. تحولت ثورة الياسمين، الأولى في الربيع العربي والوحيدة التي حالت دون اندلاع حرب أهلية، إلى زهرة ذابلة بعد اثني عشر عامًا (..) مقاطعة الانتخابات هي احتجاج صاخب ضد الرئيس الشعبوي قيس سعيد (..) لقد تخلى العالم عن تونس التي أصابها الفقر جراء الأزمة، ففر شبابها إلى إيطاليا على متن قوارب الموت". وبدلا من فتح حوار مع المعارضة، يبدو أن سعيد اختار تجاهل نتائج الانتخابات لمواصلة تنفيذ أجندته التي تكرس حكم الفرد الواحد، أي تماما، عكس ما حلمت به ثورة "الياسمين".
وحدة قاتلة .. صحراء سياسية .. وطواحين هواء
النزعة الفردانية لسعيد ظهرت منذ البداية، حينما ترشح كمستقل، بنى شرعيته كمُغرد شعبوي خارج سرب النظام السياسي القائم، ما جعل منه وبسرعة أيقونة وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن ما كان في البداية امتيازا تحول فيما بعد إلى عائقٍ كَبَحَ اندفاعه إلى حد كبير، ذلك أن افتقاره لحزب أو تكتل سياسي يستند إليه، حوله إلى دونكيشوت بمشهد سياسي يواجه فيه المعارضة والإعلام دون حلفاء بالمعنى التقليدي للكلمة، انطلاقا من شعار "الشعب يريد". غير أن المعارضة لا توجد في وضع أفضل، خصوصا وأنها بددت ثقة التونسيين بعد سنوات من الخلافات العميقة إبان ممارستها للسلطة. وبالتالي ليس من الواضح كيف يمكن لها الاستفادة سياسيا من النقمة الشعبية المتزايدة ضد الرئيس.
انسداد الأفق السياسي تقابله آفاق اقتصادية قاتمة، أمام مخاوف من تخلف الدولة عن سداد ديونها السيادية، مع كل ما قد يترتب عن ذلك من تداعيات كارثية، قد تقترب فيها البلاد من السيناريو اللبناني، خصوصا بعد تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وقد فشلت كل المحاولات لحد الآن لتنفيذ إصلاحات اقتصادية كما تترقبها المؤسسات المالية الدولية، دون إثارة غضب الشارع وبالتالي تهديد السلم الاجتماعي. وما زاد الطين بلة هو حدوث تدهور شامل للسياق الدولي بسبب الجائحة والحرب في أوكرانيا. وبهذا الصدد كتب موقع التلفزيون الألماني "زي.دي.إف" (الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) معلقاً: "من أجل تمويل وارداتها والحفاظ على استمرارية الاقتصاد المحلي، اضطرت تونس إلى الاقتراض عدة مرات، قبل الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. غير أن البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة رفعت أسعار الفائدة، مما يعني أن تكلفة القروض التونسية آخذة في الارتفاع أيضًا. إن ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم، يعمل كمُسرع لحريق في البلاد".
موقع "اتحاد الشغل" في المعادلة السياسية
يعتبر"الاتحاد العام التونسي للشغل" أكبر تنظيم نقابي في البلاد ويتمتع بثقل سياسي وازن وبتجذر تاريخي واجتماعي كبير يمنحه القدرة على التأثير في التوازنات السياسية. كما لعب الاتحاد دورا رئيسيا في ثورة 2011 التي أطاحت بنظام بن علي. ومنذ ذلك الحين والحكومات المتعاقبة في تونس تسعى لتعزيز التعاون مع هذا التنظيم للحفاظ على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي. وكان الاتحاد من الداعمين للرئيس قيس سعيد حين إعلانه تدابيره استثنائية في صيف 2021 بحل البرلمان بهدف إنهاء حالة الشلل السياسي، إلا أن الاتحاد تحول مؤخرا إلى معارضة واضحة لما يسميه بالحكم الفردي للرئيس. وعبر التنظيم النقابي في أكثر من مناسبة عن معارضته للأجندة الإصلاحية لسعيد، بل وهدد بـ"احتلال الشوارع" في حال رفض الرئيس القبول بالحوار للخروج من الاحتقان السياسي والاقتصادي الذي تعرفه البلاد.
ويسعى الاتحاد بالتنسيق مع تنظيمات أخرى، منها "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" وهيئة المحامين لإطلاق مبادرة للإنقاذ الوطني. وهي خطوة تذكر إلى حد بعيد بمبادرة قادها الاتحاد إلى جانب تنظيمات أخرى في ذروة الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد عام 2013، ما جنب البلاد حينها من الغرق في الفوضى عامين فقط بعد الإطاحة ببن علي وذلك، عبر اقتراح حكومة انتقالية غير حزبية مهدت لانتخابات عام 2014. انجاز مهم مكن الاتحاد وشركائه الآخرين من الفوز في العام التالي بجائزة نوبل للسلام. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "يونغه فيلت" اليسارية الألمانية (الخامس من ديسمبر 2022) بأن هناك "صراع على السلطة يختمر بين نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل ذو النفوذ الواسع والرئيس المستبد (قيس سعيد) بشكل متزايد، بينما تنزلق البلاد أعمق وأعمق في الأزمة الاقتصادية".
حرية الصحافة على كف عفريت
تعيش الصحافة التونسية على وقع التراجع في هوامش حرية التعبير، بعدما أصدر الرئيس قيس سعيد أصدر في سبتمبر/ أيلول 2022 مرسوما يتعلق بجرائم "الاتصال وأنظمة المعلومات"، ينص على فرض عقوبات على "مروجي الإشاعات والأخبار الكاذبة". وهي نافذة تفتح الباب واسعا أمام جبروت السلطة التنفيذية لتكميم أفواه الصحافيين "المزعجين". وقد أثار هذا المرسوم انزعاج الصحفيين والتنظيمات الحقوقية. ومن أوائل ضحايا المرسوم الجديد الصحافي نزار بهلول الذي يعمل في موقع "بيزنس نيوز" وكذلك المعارض السياسي العياشي الهمامي. المرسوم دفع بما لا يقل عن 35 منظمة حقوقية في البلاد لنشر بيان مشترك، عبرت فيه عن قلقها على مستقبل الحريات في البلاد ومخاطر توظيف المرسوم المذكور إلى أداة للضغط على المعارضين السياسيين، رغم أن الرئيس سعيد تعهد في أكثر من مناسبة بحماية حرية الصحافة كإحدى أهم مكتسبات ثورة 2011. غير أن الوقائع تكذب هذه الوعود أمام تراكم القضايا التي تستهدف الصحافيين والمدونين.
وبهذا الصدد، يمكن أن نقرأ العنوان التالي: "تلميحات قاتمة وتهديدات جامحة: الرئيس التونسي ينقض على خصومه"، وهو عنوان مقال رأي لصحيفة "نويه تسوريخه تسايتونغ" السويسرية (29 ديسمبر/ كانون الأول 2022)، جاء فيه أن "قيس سعيد يتعرض لضغوط متزايدة لأن المواطنين يرفضون دعمه في مشاريعه لإعادة الهيكلة الجذرية للنظام السياسي. لذلك بدأ الآن في إهانة منتقديه بوصفهم بالخونة والمرتزقة للأجانب". وأضافت الصحيفة أن وضع سعيد يزداد تأزما منذ أن شارك 11 في المائة فقط من الناخبين في الانتخابات العامة في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث "فُسرت هذه المشاركة الضعيفة والقياسية على أنها تصويت بحجب الثقة ضد مسار الإصلاح الجذري الذي يتبناه نظام سعيد. وهذا ما دفع المعارضة لدعوة رئيس الدولة إلى الاستقالة وتنظيم انتخابات جديدة".
منظمات حقوقية تدق ناقوس الخطر
في أحدث تقرير لها حول تونس، انتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان (12 يناير/ كانون الثاني 2023) استيلاء الرئيس التونسي قيس سعيد على كل الصلاحيات الدستورية في البلاد، واعتبرت ذلك يشكل عائقا أمام التحول الديمقراطي في تونس. واعتبرت المنظمة أن السلطات الهائلة التي استحوذ عليها الرئيس، همًشت المؤسسات التي تشكل ضابطا لحفظ توازن توزيع السلطات، بما فيها سلطة الرئيس وهو ما عرقل التحول الديموقراطي في مهد "الربيع العربي". ورغم أن الرئيس تعهد في أكثر من مناسبة بأنه سيحمي الحريات والحقوق رغم الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها. ونددت المنظمة بـ"انتهاكات حقوقية جسيمة، شملت القيود على حرية التعبير والعنف ضد النساء والقيود التعسفية بموجب قانون حالة الطوارئ التونسي".
ونددت المنظمة الدولية بشكل خاص بالانتهاكات التي شهدها عام 2022، خصوصا ضد الصحافيين والمعارضين السياسيين. وكتبت "اتخذت مجموعة من الإجراءات القمعية ضد المعارضين والمنتقدين والشخصيات السياسية، بما يشمل إجبارهم على عدم تغيير إقامتهم، وإخضاعهم لمنع السفر ومحاكمتهم، أحيانا في محاكم عسكرية، لانتقادهم العلني للرئيس أو القوات الأمنية أو مسؤولين آخرين (..) لقد شهدت تونس تراجعا كبيرا في حرية التعبير والصحافة، حيث عمدت السلطات إلى مضايقة واعتقال ومحاكمة النشطاء والمعارضين السياسيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بتهم تتعلق بالتعبير".
وذهبت نقابة الصحافيين التونسيين (العاشر من يناير/ كانون الثاني 2023) في نفس الاتجاه وحذرت بشكل خاص من خطورة المرسوم الرئاسي 54 الذي اعتبرته تهديدا يجثم على حرية التعبير والصحافة. وهو مرسوم يعطي القاعدة القانونية للتحرش القضائي ضد المعارضين لنظام سعيد بكل أنواعهم. القلق طال أيضا الناشطات في الحركة النسائية في بلد كان يُضرب به المثل في المنطقة العربية من حيث حقوق المرأة، غير أن هذه الصورة بدأت تتغير أمام انتهاكات طالت مكتسبات التونسيات. وبهذا الصدد كتب "تاغسشبيغل" (17 نوفمبر 2022) "قام الرئيس سعيد بسن إصلاحات انتخابية ستهيمن على المشهد السياسي بأكمله على مدى السنوات الخمس المقبلة على الأقل، وستشكل تراجعا بالنسبة للإنجازات الدستورية للمرأة التونسية: فقد تم إلغاء الالتزام باحترام المساواة بين الجنسين في التعيينات في المناصب العليا، كما تقاعست الحكومة عن التصديق على النصوص الدولية التي تحمي المرأة من العنف، مثل اتفاقية إسطنبول لمناهضة العنف الأسري".
حسن زنيند