تونس: "كتاب أسود" يفجر جدلا حول السلطة الرابعة قبل الثورة وبعدها
١٠ ديسمبر ٢٠١٣الكتاب الأسود الذي صدر في مؤخراً عن رئاسة الجمهورية في تونس، أجج الجدل حول دور الإعلام التونسي في المرحلة الانتقالية الصعبة التي تجتازها البلاد بعد ثلاثة أعوام من ثورتها. كما سلط الضوء حول جوانب مثيرة في علاقة نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بالإعلام، ليس فقط المحلي منه، بل والعالمي أيضاً.
يقع الكتاب في 354 صفحة ويحمل عنوان"منظومة الدعاية تحت حكم ابن علي- الكتاب الأسود". الكتاب أعدته ونشرته دائرة الإعلام والتواصل في رئاسة الجمهورية لكنه لم يوزع بعد رسمياً. وتم تسريب نسخ منه بشكل غير رسمي عبر وسائل إعلام تونسية، فانتشر كالنار في الهشيم عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي اهتمت في غالب الأحيان بتداول لوائح أسماء الإعلاميين (376 بين تونسيين وعرب وأجانب)، الذين يذكر الكتاب أنهم "تورطوا في دعم الدكتاتورية"، وتلقوا عمولات ومكافآت سخية.
ويرى محللون بأن الجدل حول "الكتاب الأسود" هو بمثابة الشجرة التي تخفي وراءها غابة كثيفة من الاحتقان، الذي تعيشه تونس في ظل الأزمة السياسية المتواصلة منذ حوالي سنة وتعثر عملية الانتقال الديمقراطي.
كتاب أسود في مرحلة صعبة
بقدر ما لقيت مبادرة كشف جانب من أرشيف قصر الرئاسة في قرطاج، ترحيباً لدى فئات عديدة من التونسيين الذين رأوا في الكتاب قطرة من فيض الفساد والدكتاتورية في عهد الرئيس السابق، فإن المبادرة خلفت انقساماً في أوساط الإعلاميين والطبقة السياسية، وحتى داخل أركان الحكم نفسه. إذ لم يتردد الوزير المكلف بالعدالة الانتقالية، سمير ديلو (حزب النهضة الإسلامي) في انتقاد مبادرة نشر الكتاب خارج إطار العدالة الانتقالية.
لكن المقربين من الرئيس المنصف المرزوقي، وخصوصاً في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه المرزوقي، يرون بأن صدوره يعكس حالة سخط على تعثر العدالة الانتقالية وتجميد مناقشة القانون الخاص بها في المجلس التأسيسي.
وبدورها لم تخف نقابة الصحافيين التونسيين، التي لم تنكر أهمية محتويات الكتاب، تحفظها على صدور الكتاب دون تشاور معها وخارج إطار العدالة الانتقالية.
ويعتقد الدكتور توفيق يعقوب، مدير معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، إن التونسيين يحدوهم الشغف للاطلاع على الحقائق والتجاوزات التي وقعت في ظل حكم الرئيس السابق، وخصوصاً التجاوزات الخطيرة منها، لكن ما يثير القلق، كما يقول الدكتور يعقوب في حوار مع DWعربية، هو "الخشية من التوظيف السياسي والانتخابي لصدور الكتاب، وخصوصاً في مرحلة أزمة سياسية".
وبالنسبة للدكتور عبد الكريم الحيزاوي، أستاذ الإعلام في تونس ومدير عام المركز الإفريقي لتدريب الصحافيين والتواصليين بتونس، فإن "الإعلاميين والباحثين كان يمكنهم أن يستفيدوا بشكل أفضل من الكتاب كوثيقة تحتوي على معلومات مهمة وخطيرة عن الإعلاميين الذين تورطوا في دعم الدكتاتورية، لكن أهمية الوثيقة كانت تقتضي صدورها في إطار العدالة الانتقالية".
وأعرب الحيزاوي في حوار مع DWعربية عن اعتقاده بأن صدور الكتاب بهذه الكيفية "يضر بمصداقية وثيقة الكتاب كما يضر بمصداقية وهيبة الدولة". أما يعقوب فيضيف من جانبه بأن نشر الكتاب افتقد لشروط أهمها "ضرورة التقيد بمقتضيات وقوانين الأرشيف الوطني، وبحيادية الجهة التي تقوم بالتحقق ونشر المعلومات الواردة فيه، وضرورة أن يكون الكشف عن الحقائق في إطار العدالة الانتقالية".
الإعلام لاعب غير تقليدي في الأزمة
وتظهر تقارير مؤسسات تدافع عن حرية الصحافة أن أداء وسائل الإعلام في تونس في خضم الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، لم يكن بمنأى عن المآخذ، ومن أبرز تلك المآخذ أن وسائل إعلام عديدة لم يكن دورها محايداً إزاء أوضاع الانفلات السياسي والأمني، بل كانت تدخل في حالات عديدة وبشكل ممنهج كطرف فيها لحسابات حزبية أو فئوية ضيقة. وهو ما يفسر برأي المراقبين انتشار الأحكام السلبية على أداء الإعلام، على غرار عبارات "إعلام العار" أو "إعلام الثورة المضادة".
وكشفت دراسة أنجزها خبراء برعاية مؤسسات تونسية ودولية مدافعة عن حرية الإعلام، تحت عنوان "مشروع رصد وسائل الإعلام في تونس"، أن نسباً مرتفعة جداً من الخطابات التي تحرض على الحقد والكراهية والعنف وصولاً إلى التحريض على القتل، باتت متداولة في وسائل الإعلام بتونس، وتشكل قضايا الخلافات الحزبية والصراعات حول الدين مادتها الرئيسية ولا تستثني طرفاً سياسياً دون آخر أو جماعة دون غيرها.
وأظهرت الدراسة أن نسب خطابات الكراهية في الصحف اليومية المكتوبة تصل معدلاتها 34 في المائة من مجموع ما ينشر، ويصل هذا المعدل في الأسبوعيات إلى 71 في المائة أحياناً. أما بالنسبة للمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية الخاصة فإن خطابات الكراهية تتكرر فيها بنسبة تتراوح ما بين 60 إلى 30 في المائة.
ولم تشمل الدراسة مجال الصحافة الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي اتسع نطاق تأثيرها في تونس، خصوصاً بعد الثورة.
"هايكا"- هيئة تحكيمية بدون وسائل
ورغم إنشاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري(هايكا) منتصف العام الحالي، كهيئة تحكيمية وسلطة إشراف على احترام معايير مهنة الصحافة وأخلاقياتها، فإن تأثيرها ما يزال محدوداً في واقع أداء كبريات القنوات التلفزيونية والإذاعية في تونس. وهو ما يعزوه الحيزاوي إلى عدم تفعيل مقتضيات المراسيم الخاصة بإصلاح الإعلام بعد الثورة. الأمر الذي يشير برأيه إلى "غياب إرادة سياسية سواء قبل انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وخصوصاً في المرحلة التي تلتها"، في إشارة منه إلى مسؤولية الحكومة التي يقودها حزب النهضة الإسلامي في عدم تنفيذ تلك المراسيم، كونها مراسيم سُنَت من قبل هيئة إصلاح الإعلام التي أُنشأت مباشرة بعد الثورة ولم تكن خاضعة للحكومة الحالية المنتخبة.
وهنالك جانب آخر يفسر ضعف تأثير الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهو محدودية الإمكانيات والوسائل المتاحة للهيئة، كما يقول الدكتور توفيق يعقوب.
ويعتقد الخبيران التونسيان أن وجود الحالة الإعلامية في تونس في منزلة بين منزلتين، قانون قائم غير مفعَل، وغياب بدائل عنه، يفسح المجال لتجاوزات السلطات وعودة شبح الرقابة والمنع. كما تعرض للصحافيين للاعتقال. وأبعد من ذلك هو هيمنة منطق فرض الأمر الواقع بالنسبة لعدد من القوى ومنها النافذة في السلطة، لإقامة أذرع إعلامية تخدم سياساتها، دون مراعاة للمعايير المهنية والقانونية في سير تلك المؤسسات الإعلامية.
وتشكل مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي رافداً موازياً يساهم في تعقيد المشهد الإعلامي بتونس، نظراً لاتساع تأثيره وغياب ضوابط قانونية أو أخلاقية تقيد أداءه. وهو ما يجعل الخبيرين الإعلاميين، يعقوب والحيزاوي، يتخوفان من أن يكون للفوضى التي تسود المشهد الإعلامي تداعيات سلبية على المرحلة الانتقالية، ولاسيما الانتخابات المقبلة.
الاستفادة من التجربة الألمانية
شكلت الصعوبات التي يواجهها الإعلام في تونس بعد الثورة، تحدياً أيضاً بالنسبة للمعاهد والمؤسسات المتخصصة في تكوين وتدريب الصحافيين، ما دفعها إلى البحث عن فرص الاستفادة من خبرات المؤسسات المهنية الأجنبية والدولية.
وقد أوضح الدكتور يعقوب أن التعاون القائم بين معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس مع مؤسسة دويتشه فيله في إطار شراكة انطلقت منذ ثلاث سنوات، تشمل مجالات التكوين والتدريب والتخطيط الاستراتيجي، ويساعد ذلك في تطوير معهد الصحافة الذي كان يُنظر إليه كمؤسسة تابعة لتكوين منظومة الدعاية في ظل النظام السابق. وأوضح مدير معهد الصحافة بتونس أن المنهج الذي يعتمده المعهد في المرحلة الجديدة قائم على أسس علمية ومناهج، تركز على المعايير المهنية وأخلاقيات الصحافة.
ومن جهته أوضح الدكتور الحيزاوي أن تعاون المركز الإفريقي لتكوين الصحافيين والتواصليين مع مؤسسات ألمانية منها مؤسسة فريدريتش ناومان منذ ثلاثة عقود وأكاديمية دويشته فيله منذ ثلاث سنوات، يركز على مجال تكوين المكونين (الأساتذة والمدربين). وأضاف بأن التعاون في هذا المجال يهدف إلى مساعدة تونس على تسريع وتيرة عملية الانتقال الديمقراطي، مشيراً إلى استفادة تونس على مستوى المعرفة والمهارات من تجربة الانتقال السياسي في ألمانيا إثر سقوط جدار برلين وتوحيد شقي ألمانيا الغربية والشرقية.