راينر فيرنر فاسبيندر- موت في أوج الإبداع الفني
٢٨ مايو ٢٠١٢
عادة ما يتم إحياء الذكرى الثلاثين لوفاة فنان ما بمقال مطول أو قصير في الصفحات الثقافية للصحف اليومية أو في المجلات المتخصصة أو أحد منتديات الإنترنت. لكن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بالمخرج الألماني راينر فيرنر فاسبيندر، فعلى الرغم من أن وفاته كانت في العاشر من حزيران/ يونيو 1982، إلا أن ذكرى وفاته أحدثت صدى إعلامياً كبيراً قبل حلولها. وتبدو كل المتاحف ودور السينما والمسارح منشغلة هذه الأيام بأحياء الذكرى الثلاثين لوفاة فاسبيندر. دور السينما في داخل ألمانيا وخارجها تعرض الأعمال الكاملة لفاسبيندر، فيما تستعد دور نشر لإصدار كتب جديدة تتناول حياة وأعمال الفنان في الأسابيع القادمة.
مبدع مشهور خارج ألمانيا
يا تُرى ما هو سر هذه الشهرة؟ رفع فاسبيندر لواء السينما الألمانية في البلاد وبنجاح في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الدول الأوروبية والولايات المتحدة يجسد فاسبيندر دون منازع السينما الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. في دور السينما المتخصصة في السواحل الشرقية من الولايات المتحدة يعتبر فاسبيندر "إيقونة" الفن السينمائي. أما مهرجان كان السينمائي، وهو أهم مهرجان في العالم، فيبحث عن فاسبيندر جديد منذ سنوات. وبسبب شهرة فاسبيندر عاقبت فرنسا، التي تعد أكبر منتج للأفلام على مستوى أوروبا، السينما الألمانية من خلال إهمال الأفلام الألمانية.
ولم يواجه معاصرو فاسبيندر صعوبات في الخروج من ظل مواطنهم الشهير فحسب، بل يجد المنتجون السينمائيون الشباب حتى يومنا هذا صعوبات في وضع أقدامهم على بساط الشهرة الذي سار عليه فاسبيندر. ورغم الأعمال الكبيرة والجيدة والتي حقق بعضها نجاحات تجارية كبيرة، بما فيها الحصول على جوائز أوسكار لفنانين ألمان أمثال توم تيكفير ورولاند ايميريش وفلوريان هينكل فون دونيرسمارك وفولفغانغ بيترسن، لم يصل أي منهم إلى شهرة عالمية يمكن مقارنتها بشهرة فاسبيندر. تحول شخص فاسبيندر إلى أسطورة فنية أكثر من كونه شخصية فنية مميزة في تاريخ صناعة الأفلام. وهناك طبعاً أسباب وراء هذه الظاهرة، وربما يمكن الحديث عن سببين أساسيين، جعلا شهرة فاسبيندر منقطعة النظير.
حياة مليئة بصخب الإبداع
من جانب ساهمت حياة فاسبيندر الصاخبة في صنع شهرته وتحوله إلى أسطورة، إذ كانت رغم قصيرها مليئة بالعطاء الفني وبالإنتاج الغزير للأفلام. البعض يسميها "نشوة الإبداع الفني"، أي إنتاج الأفلام الكثيرة خلاف فترة وجيزة. ففي الفترة ما بين فيلمه الأول "الحب ابرد من الموت" عام 1969 وفيلمه الأخير قبيل وفاته عام 1982 والذي كان بعنوان "كيفيريله"، أنتج فاسبيندر ما لا يقل عن 37 فيلماً. كيف يمكن ذلك؟ أو بالأحرى كيف جرى ذلك؟ إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن فاسبيندر لم يحقق نجاحات تجارية بأفلامه الكثيرة. كما لم يعتمد المخرج العبقري على منظومة متكاملة من الاستوديوهات، كما هو الحال في هوليوود أو في فرنسا. لكن فاسبيندر، وعلى العكس من الكثير من زملائه في ذلك الوقت، كان أكثر انفتاحاً أمام الإنتاج التلفزيوني، بيد أنه لم يكن صديقاً لهيئات دعم الإنتاج السينمائي في ألمانيا.
ودفع فاسبيندر ثمن إنتاجه لسبعة وثلاثين فيلماً بجسده بكل معنى الكلمة، إذ كان يتعاطى الكحول بكميات كبيرة إلى جانب إدمانه على المخدرات، وخصوصاً على الكوكايين، بالإضافة إلى تناوله للحبوب المهدئة، بسبب قلة النوم ومواصلة تصوير المشاهد دون انقطاع. كل ذلك رافق حياة فنان وصل بعطائه الفني إلى أقصى الحدود الممكنة للضغط النفسي والجسدي. والحقيقة أن العجب لا يكمن في غزارة إنتاجه السينمائي، بقدر تحمل جسده لكل هذه الضغوط. والعجب الحقيقي هو كيف تحمل جسده كل ذلك طيلة 37 عاماً، فحياته القصيرة والصاخبة والجامحة جعلت منه "أسطورة فنية".
مؤرخ التأريخ الألماني
أما السبب الثاني وراء شهرة فاسبيندر في خارج ألمانيا كمنتج للفيلم الألماني، فصاغه الكاتب يورغن تريمبورن في كتابه عن حياة المخرج "الأسطورة" بالقول: "المبهر في فاسبيندر أنه حاول عرض تاريخ ألمانيا الحديث وحاضرها في أفلامه، كما فعل بلزاك في روايته الكوميديا الإنسانية". ويعدد تريمبورن أفلام فاسبيندر وموضوعاتها: ففي فيلم "ديسباير" يتناول المخرج وضع ألمانيا قبيل ظهور الرايخ الثالث. وفي فيلم " ليلي مارلين" صور شخصية نسائية في ظل الدولة النازية. أما في "زواج ماريا بروان" و "لولا" فتناول الحياة الألمانية في فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.
غالباً ما يتم الخلط بين حياة الفنانين الشخصية وبين أعمالهم الفنية وبشكل مجحف، لكنهما في حياة فاسبيندر على ترابط تام. ولا يمكن النظر إلى الأفلام بعيداً عن الشخص الجالس في كرسي الإخراج، فهذا الشخص يظهر في الأفلام غالباً كممثل ولا يمكن فصله عن عمله الفني. فاسبيندر كان يحمل دائماً أفكار أفلامه معه، لأنه كان يعيش معها. وكان يقضي الليالي والأيام والأسابيع الطويلة مع طاقم عمله في شقق السكن الجماعي، هذا إن لم يكن يقضي لياليه في باريس أو نيويورك أو فرانكفورت.
ظاهرة فاسبيندر فريدة من نوعها في تاريخ السينما الألمانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. واللافت في الأمر أن فاسبيندر يتمتع بشهرة كبيرة في خارج بلاده أكثر من داخلها. عن ذلك يقول يورغن تريمبورن في كتابه عن حياة فاسبيندر "في خارج ألمانيا لا يحتاج المرء إلى التعريف بشخص فاسبيندر. أما في ألمانيا فبات ذلك اليوم أمر ضروري.
يوخن كورتن/ حسن ع. حسين
مراجعة: عماد غانم