رحلة فوتوغرافية عبر الخليج: "صور ذات نبرة خافتة"
٥ نوفمبر ٢٠٠٦حفظ المتحف الإثنوغلاتفي ما يقارب الألفي صورة على أشرطة النسخ السلبية ولوحات السليلويد والبللور في برلين سنة 1911 من تركة الرحالة والمصور الفوتوغرافي هرمن بورشارت، ظلت طوال القرن العشرين بأكمله تنام نوما شبيها بسبات أهل الكهف مجمّعة ومنسية داخل الكراتين قبل أن تلتفت إليها أنّيغرت نيبّا خلال التسعينات من القرن المنصرم ويجري عليها عمل فحص وتدقيق منظم شبيه في دقته وتقصّيه بعمل المفتشين السريين.
وقد كان عليها أولا أن تقوم بعمل فرز وترتيب لأعمال الرحالة التي لم تقتصر على بلاد المشرق العربي وشمال إفريقيا، بل شملت كذلك تركيا وإيران.
بورشارت من مواليد سنة 1857 ببرلين قد وجد بين يديه على إثر وفاة والده إرثا يمثل ثروة لا يستهان بها مكنته من أن يترك عمل التجارة الذي كان يمارسه اضطرارا ودون أية محبة لينطلق كرجل متحرر من كل قيد مهني في تحقيق رغبة "حنينه الغامض إلى الأصقاع البعيدة ".
الرحلة الأولى قادته في سنة 1893 إلى واحة سيوا بالصحراء الليبية. بعدها حلّ بدمشق التي استقر فيها بضعة سنوات لينطلق من هناك في رحلته الأولى عبر المنطقة قبل أن يقع ضحية لعملية اغتيال سببها خطأ مأساوي نتيجة خلط حصل في هويته.
من بصرة إلى عُمان
تم الآن ضبط وتحديد مواقع وتواريخ الجزء الأوفر من تركة بورشارت من الصور. وهناك جزء صغير وممتاز قد تم نشره في ما يمثل مختارات نموذجية ضمن طبعة مرفقة بتعليقات داخل مجلد باللغتين الإنكليزية والألمانية عن الرحلة التي قام بها بورشارت بين سنتي 1903 و1904 من البصرة إلى عُمان مرورا بالبصرة والكويت والبحرين وقطر وأبو ظبي ودبي.
حوالي 100 صورة تجسد مناظر طبيعية ومشاهد موانئ وأسواق وكذلك بورتريهات، مجمعة بين دفتي هذا المجلد إلى جانب مخطوطات يوميات المصور واستطرادات حول مسائل تتعلق بالتاريخ الاقتصادي وثقافة الحياة اليومية، مدبّجة كلها بمقدمة ضافية وملحقة بنسخة من محاضرة ألقاها بوكهاردت في شهر فبراير من سنة 1906 في "الجلسة العامة للجمعية الجغرافية ببرلين".
تثير مقدمة الكتاب مسألة الصعوبات المتعلقة بالمصادر، وتتبنى فكرة "إثنوغرافيا بصرية متأسسة" تنطوي على معارف "طواها النسيان داخل مجال التناقل الشفوي للمعرفة ولا ذكر لها داخل المصادر المكتوبة"، بما يعني أن "الصور لا تخدم مجرد الذكريات الفردية عن الماضي، بل هي وسائط لتواصل مستديم بين الهنا-الآن وما يقع في مناطق وأزمنة بعيدة."
وتسلط المقدمة الأضواء على الأوضاع السياسية لمنطقة الخليج في تلك الفترة والدور الذي كان يلعبه البريطانيون، والأبعاد الثقافية التاريخية للسياحة الناشئة في ذلك الزمن. كما تمكن نظرة جانبية على تاريخ التصوير الفوتوغرافي في الشرق الأدنى من إنارة مسألة التحريم الإسلامي للصورة الذي غالبا ما ظلت تلفه غشاوة الفهم الخاطئ. إذ ومنذ زمن مبكّر كانت الأوساط الفقهية قد توصلت إلى القبول بالفكرة القائلة بأن التصوير الفوتوغرافي لا يمثل البتة محاكاة لعملية الخلق الإلهية، بل ضربا من التجريد شبيها بصور المرآة التي لا تعد مكروهة من طرف الدين.
طابع عفوي
كما ينتقد المؤلفان عن حق التوجس الشبيه بردة الفعل الاشتراطية الذي يقابل به اليوم كل من تطرق في حقبة الاستعمار والتوسع الإمبريالي إلى مسائل تتعلق بالمشرق. ويؤكدان بشدة على أن بوكهاردت كان في عمله مجردا من كل الرؤى المشرقية الجانحة في الفنطازيا المميّزة لعصره.
وبالفعل فإن صوره تعطي انطباعا بطابع عفوي خال من النوايا المضمرة والإخراج المتكلف، ولا تتحكم فيها نزوات الفضول المتلصص المحرج الذي كان يميز الكثير من معاصريه. وهو ما يعني من جهة أخرى أنها لا تمنح خباياها وسحرها إلا بعد جهد من التفحص الدقيق والصبور.
ولن يجد المرء فيها شيئا من مفاعيل الغرائبية المثيرة. وبالمقابل يجد المشاهد نفسه أمام صور خافتة النبرة وذات تعبيرات شعورية ضمنية وخفية لا تكشف عن سحرها إلا ببطء وتأنّ، لكنها ستسمح عندها للمدى البعيد والصامت للمشاهد المصورة بأن يغدو أمرا في متناول الحواس.
هناك مثلا ثلاث صور لوادي في ضواحي مسقط، مأخوذة من وجهات مختلفة، لكن يربط بينها منظر برج مائي ودفاعي في الآن نفسه؛ هذه الصور في طابعها الاعتيادي اليومي وحضورها الصدفوي توقظ بعد مدة محددة من الزمن انطباعا بأن ذلك المكان معروف لدى المشاهد. الحجارة والأغصان والصخور تتراءى قريبة تكاد تلمس باليد. فهنا لا تخبر الصور عن عالم غريب، بل تعرض صورة عما هو قريب.
نصوص مملة
ولئن نجحت هذه الصور البسيطة المقتصدة من أعمال بورشارت في بلوغ غايتها، فإن قدراته على الكتابة بالمقابل تقف عائقا أما هذه الغاية؛ فمحاضرته التي طبعت ضمن المجلد تبدو مملة مقارنة بالصور. و نصوصه التي تفتقر إلى المرونة الأسلوبية لا تستطيع بأية حال من الأحوال بلوغ الأجواء التي تشع بها صوره.
" بورشارت يبرز في صوره ما تنطوي عليه الحياة اليومية من جدارة تستحق انتباه العدسة، وهو لا يصور الاستثناء بل القاعدة، لا الحدث بل المعتاد، لا النتوءات بل السطح المنبسط للأشياء"، هكذا يكتب المؤلفان بإطراء في مقدمة الكتاب. هذه الصور تسمح بطريقة مذهلة باستعادة نظرة طازجة على عالم قد اندثر منذ زمن بعيد. إنه فعلا أمر مدهش، بالمعنى الحرفي للعبارة.
بقلم أندرياس فليتش
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006
أنيغرت نيبّا وبيتر هربشترويت: رحلة عبر الخليج من البصرة إلى مسقط. صور فوتوغرافية لهرمن بورشارت. عن دار شيلر للنشر- برلين 2006 . 232