رشا حلوة: أفكار حول تأثير السوشال ميديا على التواصل والتعبير
٣١ يناير ٢٠٢٠نقرأ في الفترة الأخيرة الكثير من الدراسات حول تأثير السوشال ميديا على قدرتنا للتواصل مع الآخرين/ الأخريات، وكذلك القدرة على التعبير. أبحاث تحاكي الواقع المعاصر الذي نعيشه جميعاً، منذ إنضافت إلى حيواتنا أشكال تواصل جديدة ومتنوعة، "تقلل" من التواصل المبني على "وجه لوجه"، إلى ذلك الذي يرتكز على التواصل من خلف شاشات الحواسيب والهواتف النقّالة.
أصبحت منصات السوشال ميديا، والتي تُسمى أيضاً مواقع التواصل الاجتماعي، بمثابة مركز حيواتنا، تلك التي نحصل على معلومات منها، نتواصل مع عائلاتنا، أصدقائنا، زملائنا في العمل، ومن خلالها نخطط لأيامنا، مثلاً العروض الموسيقية التي نرغب حضورها، أو الندوات التي تحكي عن مواضيع نهتم بها، إلخ… ولهذا بالضرورة جوانب إيجابية وسلبية على الفرد.
لربما أيضاً ملامسة الجوانب الإيجابية والسلبية منوطة في أجيال عاشت العالمين، كجيلي أنا على سبيل المثال، مواليد الثمانينات. ولربما "الهسترة" التي يعيشها جيلي حيال "التواصل البشري الطبيعي" مع الآخرين، لا تخصّ الأجيال الجديدة التي وُلدت في عصر الإنستغرام. لكن، مع ذلك، رغم كل إيجابيات السوشال ميديا التي ربما يعيشها جيل أكثر من آخر، لكن، هل حقيقة أن التواصل البشري "الطبيعي" أو القدرة على التعبير اللغوي أو حتى العلاقات البشرية، هي في "خطر" ما، عليها أن تقلقنا؟
بإمكاني تناول هذا الموضوع من خلال العودة إلى مقالات ودراسات عديدة، لكنني أردت أن أحكيه من خلال تجربتي الشخصية، وتجارب لآخرين من دوائري المقربة، لربما تحتك مع تجارب عديدة أخرى، لكن بالطبع، لكل منا قصّته.
كنت كطفلة ومن ثم في جيل المراهقة، خجولة مع عدم ثقّة بالنفس، كنت ألجأ دوماً إلى الكتب والقصص في غرفتي أو مع والدي. كتبت أول نص وأنا في الصف الخامس ابتدائي، كانت وسيلتي للتواصل مع "الخارج" من خلال الكتابة كطالبة في المدرسة. لم أتكلم كثيراً، لدي صديقة واحدة، والتي كانت جارتي وزميلتي في الصفّ. أذكر، وأنا في الصف السابع ابتدائي، أنه تم دعوتي مع مجموعة من زميلات صفي لتناول وجبة غذاء لدى إحداهن، على مدار ساعات كثيرة، كنت مستمعة فقط، ولم أتكلم إلّا عندما وُجه لي سؤال. أذكر هذه القصة باستمرار، لأتذكر الفتاة التي كنت عليها، وأفهمها باستمرار.
في الصف التاسع للمرحلة الإعدادية، دخل الإنترنت إلى حياتي. حاسوب كبير في غرفة الصالة بمنزلنا في عكّا، نشبك "كابل" الإنترنت مكان الهاتف في ساعات الليل. بدأت بالتواصل مع أبناء وبنات جيلي، في بلاد عديدة من خلال غرف "التشات". عندها، اكتشفت مساحة جديدة من التواصل والتعبير عن الذات، مساحة واصلت في التوسّع، عابرة لحدود مدينتي ومن ثم بلادي إلى البلاد العربية والعالم، مساحة واصلت في التوسّع ما بعد قدرتي في التعبير آنذاك.
من غرف "التشات" إلى المدونات الإلكترونية، أصبحت صوت، وأصوات آخرين، تُسمع. ليس بالضرورة أن الآخرين كانوا يعيشون نفس حالتي، لكن هذه المنصات منحت فضاءً بديلاً نحكي فيه أفكارنا ومشاعرنا وأحلامنا، في واقع لربما قمعها آليات عديدة، سواء سياسية و/أو اجتماعية (كنساء أو فئات مهمّشة) و/أو ذاتية/ شخصية متنوعة، منها نفسية أيضاً.
مع "اقتحام" الإنترنت ووسائطه لحياتي، بدأت أتواصل بشكل جديد لم أعرفه من قبل؛ عندما أردت أن أعبّر عن رأيي، كتبت، ولم أحكي بداية. أصبحت الكتابة الوسيلة "الأسهل" للتواصل مع الآخر، أصبح لدي أصدقاء وصديقات، منهم من عاش "راحة" الكتابة ليحكي ما يرغب بقوله، مثلي تماماً. ولم أشعر أني وحدي بعد الآن. القدرة على التواصل بشكل جديد، ومع مرور الوقت، أثّر إيجاباً على قدرتي بالتواصل مع الآخرين/ات وجهاً لوجه، كأن مساحة "الثقة" التي منحها الإنترنت، لم تجعلني أرى فيه كفضاء وحيد كي أحكي وأتواصل، بل فضاءً "علاجياً" ساهم في التأثير إيجاباً على صوتي "الحقيقي".
في حديث مع صديق حول تأثير السوشال ميديا على قدرته على التواصل والتعبير، قال لي: "أشعر أنني عندما أتواصل مع شخص عبر رسائل فيسبوك أو واتساب آب، أنني أعبّر بكلمات موزونة كل الوقت. إن إمكانية أن تقرأ ما تكتبه قبل إرساله، يعطيك إمكانية للغربلة، وهذا شيء جميل. أشعر أنني أحكي ما أرتاح له تجاه نفسي والآخر. أي، لا أحكي كلاماً بإمكانه أن يجرح الآخر سهواً".
تجربة صديقي حسام مع السوشال ميديا، جعلته "موزوناً" في تعبيره، مما ساهم ذلك في أن يحافظ على علاقاته مع الآخر وإيصال "رسالته" بشكل يفتح مساحة للحوار، ولا يُغلقها. لكنه يرى في ذلك أيضاً شقاً سلبياً، فيقول لي: "يمسّ هذا في عفوية الحوار خارج السوشال ميديا، والعفوية أصبحت نادرة، وهذا أمر محزن… أشعر أحيانا أني فقدت، أو أفقد القدرة على التواصل الحقيقي. كأنني مسجون داخل الهاتف وفعالية الغربلة لا تنتهي".
امتداداً لقصة صديقي، فمن منا لا يمتعض عندما يكون مع مجموعة أصدقاء أو أفراد عائلته، وينشغل الجميع بهواتفهم بلا أي تواصل "حقيقي" مع الموجودين معه في نفس الغرفة؟ ومن منا أيضاً من "خاف" أن يحكي لوالدته ما يشعر به في وجهها، لكن كان أسهل عليه أن يكتب لها رسالة نصية؟
في بلادنا، وفي أماكن كثيرة أخرى، نجد مجموعات واتس آب فيها أفراد عائلته الصغيرة، وأخرى فيها أفراد عائلة والدته وأخرى عائلة والده، وكذلك مجموعات متنوعة لأصدقاء من أطر مختلفة، إلخ… لكن بالعودة تحديداً إلى العائلة، خاصة في موروث ثقافي اعتاد الكثير منا - وللأسف - أن لا يعبّر عن مشاعره تجاه أخيه أو أخته أو والدته أو جدّه، خلقت هذه المجموعة مساحات للتعبير عن المحبة والشوق وكذلك مشاركة الآراء حول قضايا عديدة، خاصّة أو عامّة، والمصارحة بحقيقة ما، جيدة كانت أم قاسية.
امتداداً لفكرة "المصارحة"، فإن صديقتي شهد، وفي حديثها عن السوشال ميديا والتعبير، قالت: "لربما أستطيع التواصل مع الآخرين، لكني أخاف من المكالمات الصوتية والفيديو. مع السوشال ميديا، أشعر أنني أصبحت أكثر شجاعة للحديث عن موضوع من الممكن أن يسبب لي مشكلة ما. الأزمة أن هذه الشجاعة لربما ليس لها معادلة بالواقع، لأني لو تكلمت وجهاً لوجه عن موضوع من الممكن أن يسبب لي مشكلة، ويتم مساءلتي، أصاب بنوبة رعب… وبالتالي، يحثّني الإنترنت على الحديث بحرية".
من الطبيعي أن يكون لكل شيء وجهان، إيجابي وسلبي، من جهة، يعتمد ذلك على كيف نرى تجاربنا، ومن أي زاوية، ومن جهة أخرى، يعتمد ذلك على حقائق نعيشها كأفراد أيضاً. والسوشال ميديا كذلك، استخدامها اليوم يجعلنا نستقبل تأثيراتها الإيجابية والسلبية، بالتواصل والتعبير. لا من دروس مستفادة، حسب رأيي، الأحقية تعود للتجربة والقصة، لكن بنفس الوقت، لربما من أكثر ما تحاول الحياة أن تعلّمنا هو أن نعرف كيف نوازن بين كل شيء، فالمثل القائل: "كل شيء لو زاد عن حده، نقص"... ليس بدعة.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.