رشا حلوة: التبرّع بأعضاء الجسم بعد الموت..يمنح الحياة لآخرين
٩ مايو ٢٠١٩بالعموم، أفكر كثيرًا بالموت، لا لأنني أختار ذلك، بل منذ الفقدان الشخصي لوالدي قبل سنوات، وكذلك بسبب الموت اليوميّ الذي نسمع عنه، من قريب ومن بعيد، انحصر تفكيري بالموت حول الأسئلة الوجودية، للحياة والاستمرار والأمل، أي بالأمور المتعلّقة بالروح، لا الجسد. فلم أخصّص وقتًا كافيًا للتفكير في مسألة الجسد بعد الموت، لأنني أؤمن أن الجسد فانٍ، مثل مسألة التبرّع بأعضاء جسمي بعد الموت.
مع بداية كتابتي للمقال، أردت أن أفحص بشكل سريع عدد الأصدقاء والصديقات الذين واللاتي قرروا/ن التبرّع بأعضاء أجسادهم بعد الموت، وكنت قد كتبت منشورًا عبر صفحتي في فيسبوك حول ذلك، وتفاجأت إيجابًا بالعدد الكبير الذين قرروا ذلك، ومنهم الذين اتخذوا خطوات عملية ورسمية، تضمن التبرّع بأعضائهم قانونيًا وطبيًا بعد وفاتهم.
بداية، من المهم الإشارة إلى أن التبرّع بأعضاء الجسم هي نوعان، الأوّل التبرع بالأعضاء الحيّة، والثانية بعد موت الشخص، وكلاهما عندما يسمح الشخص بإزالة أي عضو من أعضائه بطريقة قانونية، إما عن طريق موافقة المتبرّع وهو ما يزال على قيد الحياة، أو بعد الوفاة، في حال صرّح بذلك قانونيًا أو بموافقة الأقرباء. وقد يكون التبرّع هو قرار الفرد سواء من أجل الأبحاث أو لإنقاذ حياة شخص آخر. وبالتالي فان الحديث هُنا لا يشمل أي عمل غير قانوني حول الأعضاء، وما أقصده تحديدًا، هي مسألة التجارة بالأعضاء، أي بشكل غير شرعي أو غير طبّي.
مقارنة بالتبرّع بالأعضاء الحيّة، إن التبرع بالأعضاء بعد موت الشخص، هي مسألة حسّاسة، لها معارضة اجتماعية ودينية، إلا أنها هنالك مؤسسات عديدة تعمل على التوعية حول أهمية التبرّع بالأعضاء بعد الموت، كونها في كثير من الأحيان تُنقذ حياة بشر يحتاجون إلى زرع عضو ما لمواصلة حياتهم. وأنا أبحث عن أصدقاء قرروا التبرّع بأعضائهم، ذكّرني صديق بصديقتنا ميرا، فهي وعائلتها قرروا التبرّع بأعضائهم بعد الموت، وذلك استمرارًا لتجربتهم مع الموضوع. العائلة تُعاني من مرض نادر، وكان قد أنقذ التبرّع حياة أحد أخوتها، أمّا الأخ الثاني، والذي رحل عن هذا العالم، أنقذّت أعضائه حياة أشخاص آخرين.
في حديث مع ميرا، قالت: "التبرّع هو أمر مهم جدًا، أن أخي على قيد الحياة بسبب ذلك، لو لم يجد متبرعًا قبل سنوات، لما كنا نعرف ماذا كان سيحدث له. أخي الآخر، لم تنجح الزراعة معه، لكنه ساهم بإنقاذ حياة آخرين من خلال أعضائه. نحن نكمل بعضنا البعض، ليس فقط بالمشاعر، إنما بالوريد أيضًا. بالنسبة لي، أعتقد أن التبرّع بالأعضاء هي أعلى درجات التواصل مع الحياة، وأخي كسب حياة جديدة بعدما وجد متبرعًا، أشعر أن لديه طاقة تجاه الحياة تختلف عن أي شخص آخر، وهو يساهم كثيرًا في التوعية بالموضوع".
بالنسبة لغادة (47 عامًا، لبنان)، وعندما قررت أن تتبرّع بأعضائها بعد الموت، تواصلت مع "البرنامج الوطني لوهب الأعضاء" في لبنان، وأصبح معها بطاقة. عن هذا تقول: "بشكل عام، أنا إنسانة حالمة بالمعنى السينمائي، أرى الأشياء وأحسّها كأنها مشاهد سينمائية. ومشهد أن تعيش أعضائي في جسد آخر، تحسّن حياته، أعجبني. وعندما أصبح معي بطاقة، كتبت منشورًا على صفحتي الفيسبوكية والكثير من الأصدقاء تشجّعوا للأمر. التوعية بالمسألة مهمّة جدًا، وأرى أن الشهادات الحية هي أفضل طرق التوعية. أن نسمع ونرى كيف غيّر التبرّع بالأعضاء حيوات أشخاص آخرين وعائلات كاملة، أي عائلة الواهب والمستفيد".
أخبرتني غادة أنها الوحيدة في عائلتها التي اتخذت هذه الخطوة، وعندما أخبرت والدتها، لم تتقبلّ الموضوع، عن هذا تقول: "أعتقد أن المسألة نابعة من الخوف من الموت، وصعوبة الحديث عنه. أما فيما يتعلق بأولادي، فسألتهم مرة إذ يرغبون بالتبرّع، تخيّلي كم الفكرة قاسية، لكني رأيت من الضروري أن أسالهم، ولم أشعر أنهم مستعدين".
و فيما يتعلّق بالأولاد، فصديقتي رشا، وهي سورية تعيش برلين، اتخذت قرار التبرّع لكنها لم تخطو الخطوة القانونية بعد، لأنها أرادت أن تقوم بذلك بعد اقناع أبنائها، حيث اتخذت سيرورة اقناعهم مدّة عامٍ تقريبًا. عن اقتناعهم نهاية الأمر، قالت رشا: "بعد أحاديث وشرح طويل حول تجارة الأعضاء، وما ينتج عنها من خطف وقتل، وبأنها سوف تتوقف. بالإضافة إلى عشرات الفيديوهات التي تعرض كيف غيّر التبرّع بالأعضاء حيوات الكثيرين، خاصّة الأطفال، وكيف نستطيع منح حياة لآخرين بعد الموت".
مع استمرار رصدي للآراء، أخبرني بعض منهم أن قرارهم بالتبرّع بالأعضاء هو شخصي، بمعنى، لم يُشارك علنًا بسبب مخاوف عديدة. بالنسبة لعبير (اسم مستعار، 32 عامًا)، وهي سورية تعيش في ألمانيا اليوم، القرار اتُخذ وهي ما زالت في وطنها، لكن لم يكن لديها ما تفعله بهذا القرار. عن هذا تقول: "شخصيًا، لم يختلف قراري بين سوريا وألمانيا، لكن ما اختلف بين المكانيْن، هو الجانب الاجتماعي. في ألمانيا، أصبح القرار عمليًا وأعلنته، لكن في سوريا، لا أحكي علنًا لأن هنالك حساسية اجتماعية ودينية لا أريد مواجهتها بسبب قرار شخصي جدًا. في سوريا يتدخلون بمن أحبّ ولمن أمنح قلبي مجازًا، فبالتأكيد سوف يتدخلون لمن سأعطي قلبي حرفيًا".
أما عن الأسباب التي دفعتها لاتخاذ القرار، قالت عبير: "الطفولة كانت منبع ذلك. أتذكّر عندما كنت أشاهد مسلسل "الكابتن ماجد" الكرتوني، ضمّ شخصية لاعب اسمه مازن، لربما يموت أو يحصل معه مشكلة بسبب قلبه، وكنت أحزن كثيرًا، عندما كبرت، عرفت أن هنالك من يتبرّع بأعضائه بعد الموت وينقذ حياة آخرين من الموت، وهذه هي الفكرة الأولى التي حثّتني على اتخاذ قرار التبرّع بأعضائي".
بالطبع ليس من الضروري أن تكون مسألة التبرّع بالأعضاء بعد الموت، بالفكرة السهلة، تقبّلها والقرار بشأنها. خاصّة عندما يأخذ الموت أيضًا حيزًا لا يتم التعامل معه كثيرًا، كما أن التفكير بسيرورة التبرّع. لكن على مستوى شخصي، وبعد حديثي مع الناس، تأثرت من قناعاتهم التي تصبّ في التركيز على قيمة الحياة العُليا واستمراريتها بأشكال أخرى، وفيها من غياب الأنانية وكذلك العطاء التي نحتاجه في مثل هذه الأيام. لمست ذلك من خلال حديث الكثيرين، منهم عبير، التي قالت ختامًا لحديثنا: "وهب الأعضاء مثل الولادة الجديدة لأشخاص آخرين، وهو فعل أخلاقي. كما أنني لا أفهم لماذا عليّ التمسّك بأعضائي بعد الموت، فهي بكل الأحوال سوف تنتهي وتتعفن وتختفي، فلماذا يحتفظ بها جسدي الميّت؟ ولربما سأحتاج يومًا ما لعضو كي ينقذ حياتي، وهنا أيضًا صُلب القرار.. التبرّع ليس فقدانا للأعضاء، إنما هو استمرار وديمومة لي من خلال أجساد آخرين".
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.