رشا حلوة: عن الانتحار..نعم لكسر التابوهات ولنحمي من نحبّ
٦ ديسمبر ٢٠١٩نجد أحياناً صعوبة أكثر للكتابة عن مواضيع دون غيرها، ومن هذه المواضيع هي الانتحار، وهي قضية عالمية، ومؤخراً، حاضرة في المنطقة العربية، خاصّة خلال الأيام الأخيرة، وما حصل من حوادث انتحار في مصر ولبنان على سبيل المثال، لا الحصر.
صعوبة الكتابة هذه ترتكز على معايير صحافية للكتابة عن الانتحار، عملت عليها مؤسسات إعلامية وصحية عديدة، ومن المهم دوماً ككتّاب وصحافيين، مراجعتها والالتزام بها، بما في ذلك من مسؤولية إنسانية ومهنية.
هذا يأتي أيضاً مع الإدراك أن الحديث عن الانتحار والصحة النفسية والعقلية، هو بالأمر الإيجابي، على أمل أن يحقق الحديث هذا التوازن بين توفير المعلومة الدقيقة ومنع أي ضرر، ومنح مساحة أمل قدر الإمكان.
في أيلول/ سبتمبر الماضي، صرحت منظمة الصحة العالمية أنه في كل 40 ثانية في العالم، هنالك شخص واحد يضع حداً لحياته منتحراً، أي أن هنالك قرابة الـ 800 ألف شخص ينتحرون سنوياً، أي أكثر ممن تقتلهم أمراض الملاريا أو سرطان الثدي أو الحروب أو جرائم القتل. وفي العالم العربي، تحتل مصر المرتبة الأولى في معدلات الانتحار.
هذه المعلومات التي أصدرتها منظمة الصحّة العالمية، هي فقط لمنح خلفية لظاهرة الانتحار، كما يجدر التأكيد بأن الانتحار ليس جريمة، بل قضية صحّة عالمية، يختلف التعامل معها بين مكان وآخر، بين مجتمعات وأخرى، وبالتأكيد، بين حكومات وأخرى.
للانتحار أسباب عديدة ومعقدة، من الصعب ربطها بأسباب مباشرة، منها الأزمات النفسية والاكتئاب، وكذلك الأزمات الشديدة المتمثلة بالفشل والتعطل عن العمل، أو الشعور "بالعار" لدى النساء نتاج ترسبات مجتمعية أبوية، الظروف السياسية، المنظومات الاقتصادية، بالإضافة إلى المشاكل الصحية "الخطيرة"، وغيرها من الأسباب التي بإمكانها أن تكون متفاوتة ببعضها البعض… ولهذا، هنالك ضرورة للتعامل مع كل حالة على حدى.
ومن هنا، يدور حديث دوماً عن أهمية الانتباه إلى علامات شخص يرغب بالانتحار، أو إلى المسؤولية المجتمعية التي عليها أن تتفعّل مع شخص ينوي أن ينتحر، أو يتحدث عن الموت كثيراً، وبالتأكيد، ليس من السهل رصد العلامات، لكن، ما يهم في هذا السياق هو الحديث عن الأمر، وهذا بالأساس ما ينقصنا فيما يتعلق بموضوع المشاعر عموماً، والانتحار على وجه الخصوص، كونه يوضع في إطار العار والعيب والتابوه، فهنالك حاجة إنسانية لإزالة وصم العار عن الصحة والأمراض النفسية والاكتئاب… فلتذهب التابوهات إلى الجحيم، ولنحمي من نحبّ.
في ربط الانتحار بمسألة الاكتئاب بشكل مباشر، وبالصحة النفسية، من المهم التذكير بأن المرض النفسي ليس عيباً، وأن مرض الصحة العقلية لا يختلف حاجته للعلاج كما حاجة ألم المعدة، وأن هنالك طرق عديدة لمساعدة المكتئب؛ أوّلها الحاجة إلى المحيط الداعم، الذي لا يستهزئ ولا يهمّش ولا يتجاهل ولا يحكم أخلاقياً عليه. وفي مجتمعات أبوية سلطوية، هنالك حاجة جذرية بتحرير الربط ما بين التعبير عن المشاعر والضعف، وإخراج الشعور بالضعف من خانة العيب أصلاً. وكأن مجتمعاتنا تستقبلنا فقط أقوياء، وفي هذا يكون الرجال هم الضحايا أيضاً، لأنهم بالتأكيد ضحايا منظومات أبوية وذكورية.
في منشور كتبه الأخصائي النفسي المصري، الدكتور نبيل القط، عبر صفحته في فيسبوك، وضمن حديثه عن إمكانية مساعدة شخص ينوي الانتحار، ركز على أهمية الحديث/ التواصل مع الشخص، ومن التعليمات التي كتبها: "لا تحكم عليه بأنه إنسان ضعيف وغير مؤمن،... ولا تحاول التدخل لحل مشاكله لأن ذلك ليس وقت حل المشاكل، ولا حتى تحاول إقناعه بأن طريقته في رؤية العالم خاطئة أو أن ما يفكر فيه ضد الدين والأخلاق أو أنه ليس من الرجولة في شيء أن يقتل نفسه، لأنه غالباً يعرف كل ذلك وأكثر، لكن هذا وقت التعاطف والتدخل للمساعدة والحماية "أنا مش عارف بتفكر ليه كده، لكن أكيد فيه حاجة تقيلة أوي جواك هي اللي عاملة فيك كده"، ويتابع: "قد لا نفهم كيف أو لماذا يشعر بهذا الشعور أو ذاك، لكنه بالتأكيد سيقبلك إذا قلت له أنك تفهم ألمه وأنك معه… إحنا بنحبك وهنفضل نحبك مهما حصل".
المحور الثاني، هو مسؤولية الحكومات، المتجسّدة في وزارات الصحّة والمراكز الصحية الحكومية. هذه المسؤولية التي عليها أن تنطلق بداية من حماية الإنسان، والحق في الحياة، وبالطبع، في الظروف السياسية التي تعيشها المنطقة العربية، من الواضح وللأسف، أن قيمة الإنسان لدى سلطات بلاده، هي غير مرئية، وتعيش على الهامش… وكأن سؤال الإنسان هو غريب تماماً عما يدور عالم الحكومات به، وهذا يثير القهر والألم دوماً.
ومن هنا، تعمل جهات عديدة بالضغط على المؤسسات الحكومية بالقيام بدورها ومسؤوليتها إزاء تأمين مساحات استشارة، دعم وعلاج بكل ما يتعلق بالانتحار. هنالك خطوط ساخنة تحتاج إلى إعادة هيكلة وبناء، وبالمقابل، لكن بالتأكيد هنالك مؤسسات صحية ومدنية عديدة توفّر الاستشارة والدعم اللازم لما يتعلق بقضية الانتحار. وهنالك جهات عديدة تعمل جاهدة دوماً على منح مساحة أمل، تفيد بأن هنالك دائماً وقاية من الانتحار بشكل ما… دائماً.
سأعود إلى اقتباس الدكتور نبيل القط، وأتمسك من جديد بأهمية التواصل، الحديث مع من نحبّ، مع أقرب الناس إلينا. وأتذكر هنا مشهداً بعيداً، يعود إلى أيام مراهقتي أعتقد، عندما كنت أشاهد تقريراً إخبارياً عن فتاة انتحرت، وكل ما أتذكره هو حديث والدتها، التي كانت تعتقد آنذاك أن ابنتها "على ما يرام"، لكنها قالت في النهاية، كرسالة ربما لكل من يسمعها: "نحن نتحدث مع من نحبّ، عن كل شيء، إلّا عما يجب أن نتحدث عنه".
ولربما، في مجتمعات نعيشها، مليئة بالدفء والمحبة، وبنفس الوقت، يرى جزء كبير منها أن التعبير عن المشاعر ومنح حضن للآخر، هو ضعف، أو عيب، أو لا يجوز، من المهم أن نواصل التأكيد على ما يمكن التعبير عن المشاعر أو الحضن الدافئ من أم لابنتها، أن يمنحه من إيجابيات، كقاعدة تؤسس إلى ثقافة خالية من العيب والتابوهات، تدافع عن حق المشاعر بأن تكون مركبة، ثقافة متمسكة بحقّ أبنائها وبناتها في الحياة وتحارب كل من وما يأخذ منهم هذا الحقّ… لأن هنالك أمل دوماً.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.