سابقة تاريخية: مستشار ألماني موظف في شركة روسية
لا يزال المستقبل المهني للمستشار السابق شرودر يثير جدلا كبيرا في الشارع الألماني، فبعد الإعلان عن ابتعاده عن العمل السياسي وخططه لتولي رئاسة المجلس الإداري للشركة المسئولة عن مد أنابيب الغاز في بحر البلطيق عبّر كثير من السياسيين عن انتقاداتهم الشديدة لهذه الخطوة. السبب هو أن شرودر كان قد أصر أثناء فترة توليه الحكم على إبرام صفقة الغاز الكبيرة بين ألمانيا وروسيا والتي بموجبها سيتم مد أنابيب الغاز في بحر البلطيق، وذلك رغم الجدل الكبير الذي أثارته تلك الصفقة آنذاك. مما دعى الكثير من السياسيين لإثارة تساؤلات حول مدى استقلالية قرار شرودر عند إبرامه لهذه الصفقة عن مصلحته الشخصية.
وقد ألقت قضية وظيفة شرودر الجديدة الضوء على جانب من العلاقة المعقدة التي تجمع السياسة بالاقتصاد. فانتقال الساسة إلى قطاع الاقتصاد بعد انتهاءهم من تولي مناصب عليا هو أمر متكرر في ألمانيا، ولا يثير في حد ذاته أي قدر من الشبهات، غير أن الأمر يختلف عندما يتخذ السياسي المسئول قرارات تصب لمصلحة جهة اقتصادية معينة، ثم ينتقل للعمل أو الاستفادة من تلك الجهة بشكل من الأشكال بعد خروجه من عالم السياسة. ولعل القرار الذي اتخذته الحكومة الألمانية في هذا السياق يعكس الحجم الذي اكتسبته قضية وظيفة شرودر، فقد أعلنت الحكومة عن عزمها اختبار مجموعة من القواعد التي تضمن النزاهة والحيادية بحيث يمكن تطبيقها عند انتقال الساسة إلى الاقتصاد. واعتبر وزير ديوان المستشارة توماس دي ميزير أن الصورة النموذجية لهذه القواعد هي قواعد نزاهة القضاة، حيث يمنع على القاضي نظر قضية تربطه بأحد أطرافها علاقة قرابة.
استطلاع للرأي
شغلت قضية وظيفة شرودر وسائل الإعلام الألمانية طوال الأسبوع الماضي، وتناولها كثير من المعلقين من أوجه عدة، كما أدلى العديد من السياسيين والاقتصاديين بدلوهم فيها. وبدا جليا أن رجال الاقتصاد يتخذون موقفا مدافعا عن قرار شرودر بالعمل في شركة الغاز، وعن المنافع الاقتصادية الهامة التي حققتها صفقة مد أنابيب الغاز عبر بحر البلطيق. وفي هذا السياق قال بوركارد بيرجمان رئيس شركة ايون-رورغاز إن شرودر ساعد قطاع الغاز أثناء فترة توليه الحكم في العثور على الروس كشريك مناسب للنهوض بذلك القطاع. في حين اعتبر السياسيون أن خطوة شرودر تسيء إلى العمل السياسي، وأن انتفاع السياسيين الشخصي من قرارات اتخذوها هو أمر لا يتفق مع قواعد العمل الديموقراطي. رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديموقراطي بيتر شتروك اعتبر أنه يمكن وضع ميثاق للشرف على غرار المطبق في المفوضية الأوروبية.
شعبيا أظهر استطلاع للرأي قامت به قناة التليفزيون الألماني الأولى ARD عن اعتقاد غالبية الألمان أن السياسيين لا يجدر بهم الانتقال إلى وظائف اقتصادية فور خروجهم من العمل السياسي. وقال 61 بالمائة أنهم يوافقون على فكرة تحديد فترة انتظار يتحتم على السياسي قضاءها قبل ممارسته عملا اقتصاديا، في حين قال 29 بالمائة أنهم لا يعترضون على ممارسة السياسي لوظيفة اقتصادية فور خروجه من السياسة. ورأى 50 بالمائة أن قرار شرودر يسيء إلى تاريخه السياسي، في حين نفى 44 بالمائة ذلك.
شرودر يعرض إنجازاته للخطر
المعلق انجو مانتيوفل يرى أن شرودر بهذه الخطوة يُثقل على سياسة ألمانيا المستقبلية تجاه أوروبا الشرقية والتي لا تربط فقط بين برلين وموسكو، بل تمر عبر جميع عواصم دول أوروبا الشرقية من وارسو إلى كييف مرورا ببراغ وبودابست. علاوة على ذلك، يضر شرودر بسياسة بلاده مع موسكو ويعرض إنجازاته على صعيد إعادة المياه إلى مجاريها بين روسيا وألمانيا للخطر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشار الألماني السابق اتبع نهجا سياسيا مثيرا للجدل على الصعيد الدولي وبالذات على صعيد العلاقات الثنائية بين بلاده وروسيا. إذ أن شرودر بذل رغم معارضة ألمانية داخلية جميع الجهود لتطوير العلاقات مع موسكو وطي صفحات الماضي المظلمة ونسيان أحقاد ورواسب الحرب العالمية الثانية. وأكبر مثال على نجاح شرودر في هذه المهمة هي الدعوة التاريخية التي وجهتها الحكومة الروسية لألمانيا لحضور مراسم الاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية والتي تنظم سنويا في الساحة الحمراء في موسكو.
لا سلام دون روسيا
ولكن سياسة شرودر تجاه روسيا لم تضع نصب عينيها فقط المصالحة بين الروس والألمان كما يرى مانتوفل، بل أن المراقبين يلاحظون بعدا استراتيجيا وجيوسياسيا لهذه السياسة: القارة الأوروبية لن تعش بأمان ورخاء إلا إذا تم ربط روسيا بها. هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى، فإن التعاون الاقتصادي المشترك بين أوروبا وروسيا هو الضمان الوحيد لقدرة الجانبين على مجابهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
لماذا هذا المنصب بالذات؟
هذا كله صحيح وجميل، كما يقول المثل الألماني. ولكن مربط الفرس هنا هو أن جميع هذه الإنجازات التي حققها شرودر وفريقه الحكومي في السنوات السبع الماضية ستذهب أدراج الرياح إذا تسلم شرودر رئاسة المجلس الإداري للشركة المشرفة على تطوير المشروع. ويعزو مانتيوفل ذلك إلى أن سياسة المستشار الألماني السابق تجاه روسيا في السنوات السبع الماضية تصب في مصلحته الشخصية وخاصة إذا كان شرودر سيقوم بهذا العمل مقابل أجر. ليس من المهم هنا أن نستشهد ببعض المعارضين لشرودر الذين بدؤوا في الأيام الماضية بجلب الحجج والبراهين على أن شرودر خطط لتسلم هذا المنصب أثناء حكمه لألمانيا ولهذا فإنه وافق على إبرام الاتفاقية، على حد قولهم. ولكن هناك عدة مناصب يستطيع "رجل الدولة الشهم" شرودر من خلال تسلمها خدمة العلاقات بين بلاده وروسيا، كما يرى مانتيوفل، منها على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر مجمع "حوار سانت بيترسبورغ" الذي جاء تأسيسه تلبية لرغبة شرودر أو المشروع الشبابي الروسي ـ الألماني المشترك.
دويتشه فيله